-->

رسالة خارجية المغرب إلى سويسرا.. ارتباك، تناقض، تحدي وفي الأخير استجداء

قراءة: محمد هلاب


أثارتْ رسالة وزارة خارجية الاتحاد الفدرالي السويسري، الموجهة في 26 يونيو 2015 إلى كل الحكومات للدول الأطراف في مُعاهدات جنيف لسنة 1949 من أجل حماية ضحايا الحرب، بخصوص إعلان جبهة البوليساريو التزامها تطبيق معاهدات جنيف لـ 1949 والبروتوكول الإضافي الأول في النزاع ضد المملكة المغربية، أثارتْ قلق الحكومة المغربية.

وأشارتْ وزارة خارجية سويسرا إلى صفة جبهة البوليساريو كونها السلطة المُمثلة للشعب الصحراوي، التي أقرتْ فيها أنها تكافح باسمه من أجل تقرير مصيره بنفسه، وذلك في رسالتها التعميمية بقرار الجبهة الالتزام بتطبيق معاهدات جنيف لـ1949 والبروتوكول الأول في النزاع ضد المملكة المغربية، الذي أودعته في 23 يونيو 2015 لدى المجلس الفيدرالي السويسري، والذي دخل حيز النفاذ في نفس التاريخ طبقاً لمقتضيات المادة 96 الفقرة 03 للبروتوكول الإضافي الأول.

ولم تنتظر الحكومة المغربية سوى أسبوع، كانت تتدارس فيه الطريقة التي سترد بها على رسالة الخارجية السويسرية، لتتوصل إليه في 30 يُونيو 2015، حيث ترجمته في رسالة “قوية اللهجة” ومُتناقضة في مضمونها، وجّهتها باسم وزارة خارجيتها إلى نظيرتها في سويسرا.

بدأتها باستغراب من فعل سويسرا هذا، الذي “نسيتْ” أو “تناستْ” أنه تصرفٌ طبيعي ينطلق من أساس قانونٍ وجبَ احترامه (المادة 96 فقرة 03 للبروتوكول الإضافي لمعاهدات جنيف لـ 12 أغسطس 1949) وليس حباً في البوليساريو.

التناقض واضحٌ في رسالة الخارجية المغربية منذ التوطئة، خاصة عندما تقول أن “البوليساريو حركة انفصالية، تأسستْ في الجزائر، وتعمل ضد الاستقرار والوحدة الترابية للمغرب”؛ إنه غباءٌ ما بعده غباء، وكأن سويسرا التي يُخاطبها المغرب أو غيرها من دول العالم يعترف له بالسيادة على الصحراء الغربية، أو كأنه لا يعرف بأن كل دول العالم بما فيها سويسرا وهو نفسه يعترفون بأن جبهة البوليساريو هي حركة تحررية تقود نضال الشعب الصحراوي من أجل تقرير مصيره بنفسه، وهي التي تفاوض باسمه معه من أجل ذلك.

كما أن الإرباك البادي على الحكومة المغربية، جعلها تتلعثم في رسالتها “الاحتجاجية” إلى درجة أنها أَرَّخَتْ إيداع البوليساريو لرسالتها التعميمية بالقرار بـ 21 يونيو، بينما التاريخ الصحيح هو يوم 23 يونيو.

والأكثر من ذلك أن حكومة المملكة المغربية اعتبرتْ الأمر “لاغياً”، واستنكرتْ فعل ما أسمتهُ “الدولة الحاضنة”، التي قالت أنها “أخفقتْ في التزاماتها القانونية بعدم الانحياز أمام كل الدول الأطراف في المعاهدات”؛ وهذا أمرٌ لم تعبّر عنه إلا المملكة المغربية من جانبها وحدها؛ مانحة نفسها “حق التساؤل”، عندما طرحت السؤال “ماذا سيكون موقف سويسرا في حالة تقدمتْ مجموعاتٌ مسلحة إرهابية بإعلانات مشابهة والبعض منها يتبنى مبدأ تقرير المصير كما تدعي البوليساريو؟”.

وهنا تطرح المملكة المغربية نفسها في وضع لا تحسد عليه، ليس فقط في مواجهة شرعية البوليساريو، وإنما في مواجهة شرعية كل الحركات والشعوب التي طالبتْ وتطالبُ بحقها في تقرير المصير.

في الرسالة كذلك، تطالب الخارجية المغربية ـ في إشارة إلى سويسرا ـ حيث تقول “الهيئة التي تحتضن المعاهدات ليستْ مجرد مكتب للتسجيل، بل عليها مسؤولية البحث بشكل موضوعي في شرعية الاعلانات الموجهة إليها قبل توزيعها على الدول الأطراف”، مُضيفة القول “…وبالفعل و طبقا للمادة 96/ الفقرة 03 والمادة الأولى/ الفقرة 04 للبروتوكول الإضافي الأول، فإن الاعلان من أجل أن يكون مقبولاً ينبغي أن يتعلق الأمر بنزاع مُسلح بين شعب يُناضل من أجل تقرير مصيره وطرف البروتوكول، وأن يكون صاحب الاعلان السلطة التي تمثل ذلك الشعب وأن يتعلق الأمر بوضعية كفاح مسلح موجه ضد الهيمنة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي والأنظمة العنصرية”؛ كل هذا تقر به المملكة المغربية وتعترف به في رسالة خارجيتها، ومع ذلك فإنها تتهم بعده مباشرة سويسرا بقولها أنها “قد تجاهلتْ كل هاته المقاييس وتبنتْ تأويلاً سريعاً للمُعاهدات ضد مواقف الأمم المتحدة، مما يُهددُ تغيير طبيعة النزاع السياسي الإقليمي بالصحراء”، وهنا تناقض الحكومة المغربية نفسها بشكل واضح في العبارة الأخيرة (طبيعة النزاع السياسي الإقليمي بالصحراء)، مما يعني وبما لا يدع مجالاً للشك اعترافها بأن هناك نزاعاً سياسياً بالصحراء الغربية، التي اكتفت فقط بعبارة “الصحراء” دون إظهارها عن أي صحراء تتحدث، فلاهي قادرةٌ على إضافة “المغربية” ولا “الغربية”.

وتضيف الرسالة المغربية قائلة “…وفي الواقع إن سويسرا لا يُمكن أن تتجاهل أن النزاع المسلح بين المملكة المغربية والجزائر والبوليساريو قد توقف منذ قرابة ربع قرن، وغياب النزاع المسلح يجدر به أن يكون كافياً لسويسرا لرفض إعلان البوليساريو، لأنه في الحقيقة يقتصر على بعده السياسي، والتي لا ينبغي لسويسرا تزكيتها بسب مسؤوليتها بعدم الانحياز”.

مرة أخرى تقحم الخارجية المغربية طرفاً لم يَخضْ أي نزاع مُسلح في ما تقصده الرسالة (النزاع المسلح حول الصحراء الغربية)، لكن لربما كان كاتبها مُستعجلاً أو أنه قد اختلطتْ عليه الأمور، فبدل موريتانيا كتب الجزائر، والأكثر من ذلك، في هذه الفقرة، يبدو أن المملكة المغربية تحاول إقناع نفسها أو رأيها الداخلي بكون قضية الصحراء الغربية قد طُويَتْ بِطَيّ صفحة الحرب المُسلحة، بل الأكثر من ذلك تعتقد أنها طُوِيَتْ لصالحها ـ وانتهى الموضوع ـ مُتجاهلة مُقارعة البوليساريو لها وجلوسها على قدم المساواة معها على نفس الطاولة، وحصدِ الاعترافات تلو الأخرى، التي كان آخرها سببُ توجيهها لهاته الرسالة.

ولم تكتفِ الرسالة المغربية بادعاء الغباء، وإنما ذهبتْ إلى أبعد من ذلك، حين عرضتْ وهي “مُشمئزة” بسبب ما وصفته بـ“التكييف المبسط والغير مُبرر الذي قامتْ به سويسرا بين النزاع الاقليمي في الصحراء من جهة، والنزاعات التي تمكن من إعلانات طبقاً للمادة 96/ الفقرة 03 من البروتوكول الاضافي الأول”، ومن جهة أخرى تتساءل الرسالة قائلة “…وهل ينبغي التذكير أنه في الـ66 لائحة تبنى مجلس الأمن حول الصحراء منذ 1975 وفي عشرات التوصيات المُصادق عليها من طرف الجمعية العامة خلال الـ35 سنة الأخيرة، وأزيد من 120 تقرير للأمين العام، فليس هناك أي إشارة على أن الصحراء مستعمرة أو أن المغرب مُستعمر أو قوة احتلال ونظام عنصري”.

كأن المملكة المغربية هنا تريد أن تقول بأن الـ66 لائحة التي تبناها مجلس الأمن، وعشرات التوصيات المُصادق عليها من طرف الجمعية العامة، وأزيد من 120 تقرير للأمين العام، تقول على أن الصحراء مغربية؛ ناسية أو مُتناسية الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية في أكتوبر 1975 بخصوص الصحراء الغربية، وغيره من القرارات التي تطالب كلها بضرورة احترام حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، وكذلك ـ وعلى سبيل المثال لا الحصر ـ رأي هَانْسْ كُورِلْ، الذي طلبته منه الأمم المتحدة بخصوص الثروات الطبيعية في الصحراء الغربية في يناير 2002، الذي أكد فيه أن استغلال تلك الثروات على حساب مصالح الشعب الصحراوي هو انتهاك للقانون الدولي؛ بغض النظر عن تجاهلها للتوصيات المصادق عليها قبل الفترة التي حددتها بـ 35 سنة؛ وبالتالي على ماذا تستند وزارة الخارجية المغربية؟ أم أن قراءتها غير القراءات لكل ما ذكرته وما لم تذكره؟.

على من تريد حكومة المملكة المغربية أن تكذب، عندما تورد في رسالة وزارة خارجيتها قائلة “…وبعيداً أن تكون تكافح ضد أي كان (بل ضد أعداء الوحدة الترابية للملكة) فإن سكان الصحراء مُكونٌ رئيسي لهويتها ورافدٌ أساسي لثقافتها وعنصر مركزي لوحدتها واستقرارها، واعتبار هؤلاء السكان في نزاع مسلح ضد المغرب هو ضربٌ من الخيال غير مسبوق؟”.

وهنا لا نعرف ماذا تقصد الحكومة المغربية أو وزارة خارجيتها بـ”سكان الصحراء”، هل هم المستوطنون المغاربة أم الشعب الصحراوي؟ لكن الراجح أنها تقصد الاحتمال الثاني (الشعب الصحراوي)، ولا ندري أيضاً هل تخاطب المُصدّقين لدعايتها من الشعب المغربي أم الرأي العام المحلي والخارجي؟، أو أنها غير مُدركة أنه لم يعد هناك من يُصدق دعايتها لا مغاربة ولا غيرهم، لاسيما سويسرا ومن ورائها المجتمع الدولي بكل مكوناته، وعن أي ثقافة وهوية ووحدة واستقرار تتحدث؟ وهؤلاء “السكان” الذين قالتْ أن اعتبارهم في نزاع مسلح ضدها هو “ضربٌ من ضروب الخيال غير المسبوق”، كأنها تريد التنكر لأكثر من 15 سنة من الكفاح المُسلح، ولحوالي 3000 أسير حرب من جنودها، وللانتفاضات المتتالية للشعب الصحراوي الذي تصفه بـ”سكان الصحراء” في وجهها مُطالباً بتقرير المصير والاستقلال، ولولا التزامه بقرارات الشرعية الدولية التي وقعتها ممثله الشرعي والوحيد (جبهة البوليساريو) لكانت السنوات الـ15 من الحرب المُسلحة قد امتدتْ إلى الآن، وإلى أن يُطوَى ملف القضية نهائياً.

شديدةٌ هي لهجة رسالة خارجية المملكة المغربية عندما يُخاطب القائم عليها نظيره في سويسرا قائلا“سيدي الوزير، إن حكومة المملكة المغربية تعتبر أن الحكومة السويسرية تجاوزت وبشكل خطير صلاحياتها بقبول إعلانٍ من طرف سلطة غير مؤهلة لذلك، لأنه في الواقع المغرب سيبقى هو الممثل الوحيد والشرعي لسكان الصحراء، ولا يُمكن إلا إدانة هذا الانحياز من طرف الدولة السويسرية، لأنها تضفي المصداقية على البوليساريو في محاولته سلب صفة لم يمنحها له لا السكان الأصليين ولا الأمم المتحدة”.

غباءٌ ما بعدهُ غباء، أو ثقة زائدة في النفس، خاصة عندما يقول وزير الخارجية المغربي أن “بلاده ستبقى هي الممثل الوحيد والشرعي لسكان الصحراء”، ولا ندري بماذا سيَفرِضُ المغرب هذا الخيار، هل بالقوة أم بالإقناع؟ إذا كان بالأولى فماذا بقي منها يا ترى؟ وأما إذا كان بالثانية فماذا ينتظر؟ لكن الأحرى به أن يُدرك أن الخيَارَيْنِ لم يُجديَا نفعاً في ترويض الشعب المغربي نفسه، فما بالك بالشعب الصحراوي، الذي ضرب عرض الحائط كل رهانات الدولة المغربية، وأثبت لها وللعالم أجمع انه عصيٌّ على الابتلاع.

أما إدانته لسويسرا، فلا أعتقد أن الأمر يستوجب منها رداً، بل إنها إدانة كافية لمعرفة أي الرفوف التي ستضع سويسرا ومن ورائها المجتمع الدولي المملكة المغربية.

وفيما يخص تعريف وزارة الخارجية المغربية للبوليساريو في رسالتها بقولها “إن البوليساريو وهي حركة انفصالية، ليستْ لديها لا الشرعية السياسية أو التاريخية أو القانونية لادعاء التمثيل الوحيد لسكان الصحراء، وكل ما في الأمر أنه تم قبولها لتمثل نفسها في إطار البحث عن حل سياسي للنزاع الإقليمي حول الصحراء.. وبهذه الصفة فقط تم إدراجها في المسلسل السياسي، ولا يُمكن للدولة السويسرية تجاهل هذا الأمر الذي أقرته الأمم المتحدة، ومن جهة أخرى من الصعب عدم اعتبار أن الموقف المتسرع للدولة السويسرية يعني دعم لموقف المتحدي للجزائر والبوليساريو”.

يبق هذا التعريف من وجهة نظر المغرب، حتى وإن كان لا يعتقد ولا يُقر به رسمياً، إنه تعريفٌ لن تجدَ له مثيلاً إلا في مخيلة النظام الحاكم في المغرب وأزلامه، ولكنه لا يعدو كونه سمفونية مشروخة تعزف صباح مساء على أسماع الشعب المغربي لإيهامه وصده عن المطالبة بحقوقه، كما كان عليه الأمر منذ الوهلة الأولى لاحتلاله للصحراء الغربية، الذي أراد به الحفاظ على العرش، الذي كان آنذاك على وشك السقوط، هذا العرش الذي تبقى مسألة بقائه مرهونة بقضية الصحراء الغربية، حيث ما دامتْ محتلة فإنه لا بأس عليه، وبمجرد استقلالها يضيع، وتصبح الملكية في المغرب في خبر كان.

إنه تعريف لا مجال له في كل قواميس السياسة، وإلا فما الذي يدعو المغرب إلى الجلوس إلى نفس الطاولة التي تجلس حولها جبهة البوليساريو ـ كما سبقت الإشارة ـ.

وفي ذَيْلِ رسالة خارجية المملكة المغربية، يكتب الكاتب قائلاً “خلال الثلاث عقود، مئات الجنود المغاربة تعرضوا لأبشع المُعاملات في ظروف لا إنسانية، في خرق للمعاهدة الثالثة لجنيف وفي صمتٍ مدوي للدولة السويسرية، رغم المطالب المُلحة للملكة المغربية بصفتها طرف في معاهدات جنيف”.

نفس الشيء، وكما جرتْ عليه العادة، تناقضٌ بائن، يُظهر مدى شرعية وبسالة وشجاعة جبهة البوليساريو وجناحها المسلح (جيش التحرير الشعبي الصحراوي) الذي أقر المغرب بأن المئات من جنوده تم أسرهم، حتى وإن كان استبدل عبارة “أسر” بـ”تعرضوا لأبشع المعاملات”، لكن لم يسأل المغرب نفسه قبل أن يُذكر سويسرا لماذا تعرض جنوده لما ادعى؟ هل تم الاعتداء عليهم داخل أرضهم؟ أم أن ذلك حصل بسبب غزو ظالم تصدى له المظلوم بكل ما أوتي من قوة لردعه؟ إن سويسرا ومن ورائها كل أطياف المجتمع الدولي بمن فيهم المغرب نفسه يعلمون ذلك جيداً ويُدركون كل تفاصيله التاريخية والقانونية والسياسية، ولا يحتاجون فيه لأي تذكير.

لكل “هذه الأسباب” ـ تختم رسالة وزارة الخارجية المغربية بقولها ـ “…فإن المملكة المغربية ترفض مسعى البوليساريو وتعتبره لاغياً وغير مقبول، وتطالب الدولة السويسرية أن تقوم بحس نقدي تجاه هذه المناورة السياسية التي تتلاعب بالمبادئ النبيلة التي تحتويها معاهدات جنيف والبروتوكولات الاضافية و تهدد مصداقيتها.. كما تطالب المملكة سويسرا بإعادة النظر في إعلان البوليساريو، وتدعو كافة الأطراف التي توصلتْ به ألا تعطيه أي مصداقية”.

يا لها من خاتمة مُثيرة، حيث يعتقد من خلالها القارئ ـ غير المُلم بالتفاصيل ـ وكأن جبهة البوليساريو حظيتْ يوماً بعطفٍ أو قبول أي مسعىً لديها من طرف المملكة المغربية؛ فمتى كان أي نصرٍ أو مسعىً لدى البوليساريو مقبول من طرف المملكة المغربية؟

إن المملكة المغربية لم تجد من شيء تختم به رسالتها بعد الارتباك والتناقض والتحدي الفاشل، إلا الاستجداء واستعطاف سويسرا وغيرها من الأطراف التي توصلتْ بقرار البوليساريو، لإعادة النظر في أمرٍ تدرك المملكة قبل غيرها أنه لا رجعتَ فيه، وأن حله هو شعار المؤتمر الأخير (الثالث عشر لجبهة البوليساريو) القائل “الدولة الصحراوية المُستقلة هي الحل”.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *