-->

في تأبين الزعيم محمد عبد العزيز : منتهى اليتم أن تكون فاقدا لأهدافك ومثلك


” هناك رجال كافحوا يوما وهم طيبون، وهناك رجال كافحوا سنة وهم افضل، وهناك من يكافحون لسنوات طويلة هؤلاء هم الاحسن، لكن هناك رجال يكافحون مدى الحياة هؤلاء لا غنى عنهم ” برتول ابريخت
تعرفت على الراحل محمد عبد العزيز، وجمعتنا رفقة خلال خمسين سنة، اي عمر بأكمله، تعاملت وتعاونت معه، واحتضنتنا نفس القضية، اني لأجد مواساة حقيقية في الحديث عن هذا الصديق الكبير، بالرغم من الأسى والحسرة اللذان يختلجان صدري، من المؤكد أن رحيله ترك فراغا كبيرا يصعب ملؤه، مع ذلك أحاول ما استطعت الحديث عن صفحات ناصعة من إرثه ومناقب شخصيته التي شكلت قيمة مضافة في كفاح الشعب الصحراوي.
قد يكون رأيا ذاتيا، وهو كذلك، فليس من باب الإعجاب المطلق بشخص الراحل محمد عبد العزيز، بل ينطلق من معاينات وملاحظات يمكن أن يدركها أي متتبع لمسيرة الرجل.
استمراريته وثباته في الدفاع عن القضية وشرعية الكفاح، غير مبال بالصعاب شكل إحدى السمات التي طبعت حياته اليومية، كما أن للرجل احترام عميق لمعنى الصداقة.
تحمل الراحل محمد عبد العزيز مسوؤلية الأمانة الصعبة التي أوكلت له في قيادة كفاح شعبه لأربعة عقود، أثرت بشكل جذري على مسار حياته، سخرنفسه لخدمة القضية، بصبر وجلد، فكان يتألم في صمت، كابر بالمرض، وتكتم على وضعه الصحي المتفاقم، فلم يخلد الى الراحة حتى فوض الروح لخالقها.
لقد جاء محمد عبد العزيز إلى القضية مقاتلا كأي صحراوي، مؤسسا للكفاح، عندما رحل الولي دفع به الرفاق لتولي قيادة مسيرة الشعب الصحراوي، في وقت كان هذا الأخير يعاني التشريد والتيه.
” رجال حطموا جدران الماضي وفتحوا ابواب التاريخ” كما يقول الشاعر الكبير بابلو نيرودا
اكتسب آنذاك تجربة متبصرة في كيفية اتخاذ القرارات، ونال ثقة الشعب الصحروي، حظي بإحترام رفاقه وتقدير قادة وشخصيات عبر العالم خاصة في القارة السمراء.
لقد كان بحق مدرسة في الكفاح والنضال.
مكنه ذكاؤه المتقد من مراكمة الخبرة على ضوء التجربة المستمدة من الواقع المعاش، يطبعها نوع من البراغماتية، كان مولعا بالتعلم، له قدرة فائقة على الاستماع بتأني، كما كان يتحلى دائما ببساطة وتواضع كبيرين، مع رغبة في الفهم والاستيعاب لا متناهية، فانصهر كلية في كفاح شعبه منذ الوهلة الأولى
الكل مجمع أنه رجل ميدان، خاض العديد من المعارك، يملك إحساسا مرهفا وعميقا بالمسوؤليات الملقاة على عاتقه، كان يهتم بالقضايا ويدقق في تفاصيليها، ولا يتجاهل أحدا.
بالرغم من احتكاكه بزعماء وشخصيات نافذة في العالم لم تغريه السلطة، آثر العيش ببساطة بين أحضان شعبه.
كان لدى محمد عبد العزيز انشغالان دائمان
ـ المرافعة عن شعبه والدفاع المستميت عن قضيته.
ـ الامتنان لكل من يبدي تضامنه مع كفاح الشعب الصحراوي ولم ييأس يوما من محاولة إقناع محاوريه وإيجاد أصدقاء وحلفاء جدد للقضية، انطلاقا من أن قوة أي كفاح تحريري تكمن في تجميع القوة وحشد المزيد من التضامن والدعم.
ومع مرور الزمن استطاع أن يراكم معرفة حميمية بالناس وبالمجتمع، خبر خبايا وأسرار الدبلوماسية مع إدراك عميق بالاهداف التي يتوجب تحقيقها، كما دأب على تحمل أعباء الكفاح بكل تجلياته، بما فيها من إرهاق وروتين وتكرار.
يجب التذكير بأن كفاح الشعب الصحراوي هو كفاح مرير من أجل التحرير الوطني، لكنه أيضا نضال من اجل إعادة تأهيل شعب تركه الاستعمار في حالة تخلف وتشريد، أراد محمد عبد العزيز إرساء دعائم مجتمع متسامح، ومنفتح، وديمقراطي، بينما يحاول نظام الاحتلال المغربي غرس سياسة التفرقة، وتشويه كفاح الشعب الصحراوي، منتهجا أساليب قذرة تقوم على الدعاية الهدامة والإشاعة المغرضة.
كافح محمد عبد العزيز حتى آخر رمق من حياته عن وحدة الشعب التي يعتبرها ثابتا مقدسا، وفي هذا الصدد من منا لا يذكر خطابه الشهير الذي القاه بتاريخ 20 ماي 2005، وكان إيذانا لانطلاق شرارة انتفاضة الاستقلال، مؤكدا بذالك التلاحم العضوي بين كل مكونات الجسم الصحراوي ( الجماهير الصحراوية في الارض المحتلة و اللجوء و المهجر).
لقد كان محمد عبد العزيز سباقا للمشاركة في حملات التعبئة، والتطوع، ونظافة البيئة والمحيط .
كما كان بالأمس مرابطا بالخطوط الأمامية سنوات الكفاح المسلح حتى وقف إطلاق النار، كلفه ذلك جروحا في جسده، فكم من مرة حاول رفاقه إقناعه بالإبتعاد عن ميدان المعركة حفاظا على حياته، الأمر الذي كان يرفضه البتة، ليس لأنه كان يتقمص دور ” البطل” لكن إقدامه وشجاعته كانا جليين.
بفضل إيمانه ومثاليته اللذين فاقا متطلبات المهمة المنوطة به، نال “كارزمة” سحرية لدى شعبه تجسدت في مشهد الوادع الأخير الذي عبر عنه المجتمع الصحراوي قاطبة لحظة مواراته إلى مثواه الأخير .
ونحن الذين عاشرناه عرفنا كيف نقدر صدقه وإخلاصه.
الضغينة، الكراهية، والحقد لم تعرف طريقا إلى صدره.
فيما يخص المغرب، فقد كتب محمد عبد العزيز إلى الملك الحسن الثاني ثم إلى ابنه، بالرغم من النزاع الدامي القائم، من منطلق قناعته أن شعوب المنطقة لها أن تعيش يوما في وئام وتفاهم.
هنا أريد أن أتحدث عن ذكرى شخصية: كنت في رحلة مع محمد عبد العزيز إلى جمهورية ناميبيا للمشاركة في عيد استقلال هذا الشعب الصديق، وعند مرورنا بجنوب افريقيا كان يطرح علي أسئلة كثيرة بحكم معرفتي المتواضعة لهذا البلد وتاريخه. حينها قمت بوصف المشهد الذي قام فيه الزعيم نيلسون مانديلا بمصافحة القاضي الذي حكم عليه بالسجن المؤبد، بحضور ممثلي الطيف السياسي الجنوب افريقي في مشهد مؤثر أصاب الحضور بالذهول، علق محمد عبد العزيز انذاك قائلا ” لقد ذهبو بعيدا في الصفح والتسامح”.
مع مخطط السلام 1991 آمن محمد عبد العزيز بإمكانية حل سلمي لنزاع الصحراء الغربية، وكرس من أجل هذا المسعى طاقاته وجهده، بدءا بإقناع الصحراويين بالتفاوض مع الخصم المغربي.
لكن على حساب الكل، وعكس ما كان متوقعا، فوت حكام المغرب وحلفاؤهم الفرصة، وإمكانية بناء سلام حقيقي وقوي بين شعوبنا ومحمد عبد العزيز على قيد الحياة. قوبلت هذه الإرادة الصادقة بإزدراء، لأنهم لم يستطيعوا أن يرقوا الى الحكمة السياسية وبعد النظر اللتين تحلى بهما الرجل.
” منتهى اليتم أن تكون فاقدا لأهدافك ومثلك” هكذا كان يفكر محمد عبد العزيز، وقبله الولي مصطفى السيد، ومحمد سيد ابراهيم بصيري، وكل المكافحين الصحراويين.
لا الزمن ولا الظروف أنصفتك خلال حياتك القصيرة، لكن الغنية.
هناك شعب بأكمله سيواصل الطريق، وأجيال تتوالى على حمل المشعل.
رفاقك مثابرون على الدرب، وتحمل أعباء المهمة، فكم هي شاقة ومضنية بدونك.
ولعل تلك الجذوة التي بقيت مشتعلة بعد رحيلك ستستمر متوهجة بين ذويك ولدى شعبك إلى الأبد.
بقلم : محمد سيداتي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *