-->

المسيحيون في الشرق بين إرهاب الجماعات المسلحة والأطماع الغربية


منذ احتلال العراق إبان الغزو الأمريكي وما تلاه من أحداث سياسية وتغيرات ديمغرافية وإستراتيجية في خارطة الشرق الأوسط وبالتحديد في الأماكن التي تعتبر المعقل الرئيسي لمسيحي الشرق كالعراق وسوريا ولبنان ومصر وزادت الأمور سوءا بعد ما أصبح هؤلاء الذين عاشوا في هذه الأراضي وسكنوها لآلاف السنين نازحين ومهجرين منها, إذ يعتبر المسيحيون من سكانها الأصليين وشهد أجدادهم ولادة السيد المسيح عليه أفضل الصلاة وازكي التسليم وتعايشوا طوال قرون من الزمن مع مختلف الثقافات والحضارات والدول التي مرت على المنطقة وضرب المسيحيون وإخوتهم المسلمون أروع أمثلة ونماذج الرقي والتطور المعرفي والتعايش الثقافي والاثني الديني والعرقي في جسد المجتمع العربي الواحد ,وتعتبر العهدة العمرية لمسيحي الشرق عندما زار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مدينة القدس والتقي ببطرياكها الأسقف سوفرونس وكان ذلك في سنة 638للميلاد نموذجا لهذا الأمر , وكانت أول قمة مسيحية إسلامية في التاريخ البشري,وهى تعكس مدي الإجلال والاحترام والتقدير الذي يكنه الإسلام إلى الديانات السماوية والتي تعبر المسيحية أقربها إليه ,وما لعيسي بن مريم وأمه السيدة مريم البتول عليهما السلام من مكانة عظيمة جليلة في القران الكريم والسنة النبوية المطهرة.
- وبعيدا عن السياقات الدينية أو المنهجية التاريخية فانه يجب علينا أن نعترف بان الواقع الحالي مختلف تماما عن الصياغة الحضارية التقليدية إذ منذ أن انتشرت الجماعات الإرهابية التي كان الغرب والكيان الصهيوني الغاصب من أهم داعيمها بل المحركين الأساسيين لها ,هذه التيارات الإسلامية التي انتشرت منذ أربعينيات القرن الماضي والتي استعملت لأول مرة وتم إنتاجها في مخابر المخابرات الألمانية في عهد هتلر من اجل استهداف وضرب البلدان الإسلامية التي تدخل في نطاق حكم الاتحاد السوفيتي وتقع ضمن سلطته العسكرية والسياسية ثم بعد انهزام ألمانيا النازية تولت المخابرات المركزية الأمريكية فعل ذلك وزادت من حجم التدريب والتسليح لهؤلاء ودعمتهم سياسيا من اجل الوصول إلى مراكز السلطة والقرار في بلدانهم من اجل جعلهم أوراقا لتنفيذ سياساتها التوسعية الاستعمارية .
ويعتبر كتاب مسجد في ميونيخ لمؤلفه الكاتب والباحث الألماني أين جونسون من أكثر الكتب الأكاديمية التي تكشف هذه العلاقة,وقد صدرت أول طبعة منه في سبتمبر 2011وفيه مجموعة من الوثائق والمعلومات السرية التي توصل إليها من خلال سنوات من البحث والتنقيب وكان من أهم هذه الجماعات حركة الإخوان المسلمين التي كانت من هندسة وكالة الاستخبارات الأمريكية التي عملت طوال سنوات على إنشاءها وتمويلها في السر وبعيدا عن الأضواء,فالتنظيمات الجهادية الإرهابية التي تستهدف تدمير البلدان العربية والإسلامية وتعلن الجهاد ضد أنظمتها ولا تفكر حتى في إطلاق رصاصة واحدة اتجاه إسرائيل أو إعلان الجهاد ضد المصالح الصهيونية والأمريكية العسكرية بالدرجة الأولى وبدلا عن ذلك قامت ولا تزال بعمليات إجرامية ومجازر كبرى ضد المسيحيين في الشرق وبقية الطوائف والأقليات الأخرى بغية الدفع بها إلى الهجرة وترك الأراضي التي تعتبر الهواء الذي يتنفسونه من اجل الاستيلاء عليها وتوطين أناس ينتمون إلى نفس مذهبهم الفكري التكفيري ألاستئصالي.
وهذا ما أدى كما يقول الأستاذ الدكتور حسين صادق أستاذ الفكر المعاصر في جامعة السوريون إلى فرار حوالي 300الف مسيحي من ديارهم في سوريا والعراق نتيجة غياب الدولة وعدم قدرتها على حمايتهم وتوفير سبل الأمان لهم بعد أن سيطرت الجماعات التكفيرية الدموية على مدنهم وقراهم كالموصل في العراق ومدينة معلولا السورية ,فالمنطقة العربية التي كانت كفسيفساء ملونة فيها كل الأطياف والديانات وتبدي فيها الدولة الوطنية وأنظمتها حتى ولو كانت استبدادية قمعية تسامحا دينيا كبيرا اتجاههم واتجاه أوضاعهم وبأنهم حتى وان كانوا شركاء في الوطن ولكن لهم خصوصية دينية وفكرية تميزهم عن باقي مكونات المجتمع وبالتالي هذا يفرض على السلطة السياسية أن تأخذ هذا بعين الاعتبار عند وضع التشريعات القانونية والاجتماعية التي تعتبر الدين الإسلامي في معظمهم من مصادر التشريع الأساسية حتى وان كانت أنظمتها القانونية كمصر والعراق وسوريا والى حد بعيد لبنان مستمدة من الفكر القانوني الدستوري النابليوني الغربي الفرنسي, فهذه الألفة والأخوة بين كل مكونات وأطياف المجتمعات العربية والتي كانت قبل الغزو الإرهابي الذي اتسع نطاقه وتوسع ليشمل دولا غير العراق بعد أحداث الربيع العبري في سنة2011هي التي حفظت لهذه الدول وحدتها وحمت نسيجها الاجتماعي من التمزق وساهم في أمنها واستقرارها إلى حد ما.
ورغم كل المحاولات التي قامت بها أطراف داخلية وخارجية وفق خطط معدة مسبقة لتفجير الأوضاع وخلق فتنة مسيحية إسلامية أو مسيحية فيما بينها ولكنها فشلت وقد حاولت أن تشتغل أوضاعهم الدينية المتباينة , إذ أن المسيحيين في الشرق لاينتمون كلهم إلى كنيسة واحدة كما يقول الأب المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة سباستيا للروم الارثودوكس , إذ يتوزعون اكليروسيا وكنسيا على عدة طوائف وكنائس مسيحية ربما أهمها الكنسية الارثودوكسية المشرقية والتي تضم بين جنابتها الأقباط الارثودوكس والأرمن الارثودوكس والسريان الارثودوكس ,فيما يتوزع الموارنة بين لبنان وسوريا ويبلغ عددهم حوالي 3ملايين في العالم ثلهم في الشرق الأوسط ,وتعتبر الكنسية المارونية كنيسة كاثوليكية تقر بسيادة البابا في روما إلا أن لها كنائسها المستقلة التي تعرف بالكنائس الوطنية ولكنائس لبنان المارونية بطر كيتها الخاصة بها إذ أكد المجمع البطرياكي الماروني في لبنان سنة2006بانه ينتمي إلى لبنان أولا وقبل كل شيء والموازنة سريانيون تاريخيا ينحدرون من الكنائس السريانية المشرقية ولطالما أدان عظة البطريك الكاردينال مارا بشارة بطرس الراعي.
ما يتعرض إليه أبناء العراق وسوريا وغيرهم من عمليات إبادة وقتل جماعي سواء كانوا ينتمون إلى الكنيسة المسيحية أو غيرهما من الأديان والطوائف المشكلة للشرق,بالإضافة إلى هؤلاء فان هناك طوائف واثنيات مسيحية تقاسمهم نفس الهم ونفس التوجهات الدينية والإيديولوجية كالأشوريين والكلدان والسومريين في العراق ,وكذلك الأقباط في مصر الذين ينتمون إلى الكنيسة الإنجيلية والكنائس القبطية الارثودوكسية والكاثوليكية ,زيادة على ذلك هناك الروم الارثودوكس بالقدس ,والإنجيليون في سوريا ولبنان والانجليون اللوثريون في الأردن ,والانجليون في إيران وكذلك الأسقفيون في كل من شمال إفريقيا ودول الخليج وإثيوبيا ومصر كما اشرنا سابقا,والكاثوليك ألاتينيون وكذلك الكنائس الكلدانية الكاثوليكية فكل هذه الطوائف الكنيسة التي هي جزء أصيل من البناء الفكري والتنوع الحضاري لامتنا وبلدان المشرق العربي ولكن بقيت عاجزة عن حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت بالعديد من شبابها إلى الهجرة الخارجية نحو بلدان الخليج أو أوروبا بحثا عن حياة أفضل كما أنها تقف مكتوفة الأيدي وهى ترى بان الإرهاب الأعمى توغل وتوحش أكثر وأصبح المسيحيون في الشرق أمام خيارين لا ثالث لهما وهما إما الرضوخ لهؤلاء وتحمل تبعات ذلك من فرض للجزية بالقوة أو تغيير دياناتهم أو سيكون مصيرهم التهجير أو القتل والذبح أمام شاشات التلفزيون كما شاهدنا عشرات المرات لأناس يدعون صلتهم بالإسلام وهم ليسوا سوى عناصر بلاك واتر ومنظمات ماسو نية صهيونية تستعمل الإسلام كغطاء لأفعالها من اجل تشويه سمعته وتبرير استعمارها المباشر لدولنا العربية تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.
وإما أن يغادر المسيحيون أراضيهم بالا رادتهم وقبل وصول الجماعات الإرهابية إليها ,تفاديا لتنكيل بهم وفي كلتا الحالتين فأنهم سيفقدون حقهم الشرعي والطبيعي في العيش بكرامة وامن وسلام واستقرار ,فتنظيم داعش الإرهابي يقوم بعمليات تهجير واسعة لهم في شمال العراق وقد نقلت وكالة فرنس بر س بان عناصر من التنظيم الإرهابي اقتحموا دير مار بنهام الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع قبل الميلاد ويتبع الكنيسة السريانية الكاثوليكية ويقع على بعد حوالي 30كلم جنوب مدينة الموصل العراقية وقد طلب احد الرهبان من داعش اخذ بعض التحف في الدير ولكنهم رفضوا وطالبوهم بالخروج منه فورا و ودون اخذ ملابسهم معهم وأمروهم بالمشي سيرا على الإقدام ,كما أن المسيحيات والازيديات قد أصبحنا سبايا وإماء وجواري وأصبح هناك أسواق معينة لبيعهن في المزادات العلنية وهذا مخالف لكل الأعراف الدينية أو الاجتماعية كما أنها تخالف كل قوانين الأمم المتحدة ومواثيق جنيف واتفاقياتها في بنود الحرب والسلام ورغم كل الاستنكار والشجب والإدانة الواسعة من طرف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أو المنظمات الحقوقية العالمية التي تدافع عن الحقوق الإنسانية وحق الإنسان في العيش واختيار حريته الشخصية والتقارير السوداء التي أصدرتها منظمات غير حكومية دولية كغرين بيس ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايس واتش.
ولكن لايزال هؤلاء الإرهابيون ومن على شاكلتهم في سوريا والعراق ينكلون بالأقليات وبالمسيحيين ويسلبونهم حقوقهم التي كفلتها لهم كل القوانين والشرائع السماوية والأرضية ,فالتعطش الغريزي عندهم للدماء ومحاولة طمس الهوية الحضارية للمشرق العربي وتنفيذ المخططات الصهيونية الغربية التي تهدف إلى أن تصبح منطقتها قاحلة جدباء فكريا وروحيا وقيميا وأخلاقيا بالتوازي مع نشر ثقافة الإقصاء والتهميش والذبح وعدم الاعتراف بالأخر المختلف عنا بان يكون شريكا لنا في عملية بناء الدولة التي يزعم هؤلاء أنهم يعملون على إقامتها من اجل توحيد كل شعوب المنطقة في إطار كياني سياسي موحد تكون له مرجعية دينية أو بناء الدولة الثيوقراطية بمصطلحات العلوم السياسية الحديثة,هذه النظرة التشددية الأحادية المنظور هي التي ستدفع بهؤلاء يوما ما إلى الثورة ضد الظلم والاستبداد حتى وان كانت كل المؤشرات لديهم أي مسيحيو الشرق تدل على عكس ذلك لأنهم سيصلون إلى مرحلة تاريخية ومنعرج مفصلي مهم وخطير,تصبح كل مكتسباتهم التي غنموها على امتداد قرون من الزمن في هذه الأراضي محل تساؤلات كبيرة وبالتالي سيعيدون تنظيم صفوفهم.
وربما يلتحقون بقوات الجيش العربي السوري أو الحشد الشعبي أو الجيش العراقي من اجل التصدي لمغول العصر الحديث الذين يخدمون مخططات خارجية والدين منهم براء,ومن أفعالهم التي يندي لها جبين الإنسان الحر,ويضطرون إلى حمل السلاح كما فعلوا قبل عشرات السنين ضد المحتل الغربي سواء كان فرنسيا أو بريطانيا أو إسرائيليا صهيونيا,وان كانت هذه الخطوات أصبحت ملحة فان الأكثر إلحاحا منها هو عقد لقاء موسع تشارك فيه كل مكونات الشرق من طوائف واديان ومذاهب ونحل من اجل بحث إقامة جبهة فكرية وثقافية واحدة لتصدي لفكر الوهابي التكفيري الذي بات منتشرا على نطاق مهول وعجزت الدول عن احتواءه وهو ما فرخ لنا كل هذه المجموعات الإرهابية .
وتكون فيه دعوة لإعلاء ثقافة المحبة والسلام والتآخي بين الجميع ,وهناك من فكر في إقامة هكذا مؤتمرات إذ تم عقد مؤتمر في العاصمة الروسية موسكو ودعت إليه الدكتورة أسيا قاسم أمين عام الملتقي الثقافي العربي وكان موضوعه الرئيسي أوضاع المسيحيين في الشرق وضم نخبة من المع أعمدة الثقافة والتاريخ والفكر العربي بالإضافة إلى رجال دين من مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية وتم اختيار روسيا بالذات لان الكنيسة الارثودوكسية الأم والتي هي ضاربة في أطناب التاريخ في دولة كفلسطين مثلا مقرها الأساسي روسيا الاورثودوكسية فالتقارب الديني المسيحي التاريخي بين روسيا والعرب قديم ولا يستطيع احد تجاهله أو إنكاره كما أن روسيا كانت الدولة المسيحية الوحيدة التي بعثت قواتها لمحاربة هذه الجماعات الإرهابية واستئصال شافتها من الوجود.
فيما للأسف دعمت دول غيرها تدعي أنها مسيحية وقد تدخلت في منطقتنا في أوقات سابقة من التاريخ بذريعة حماية الأقليات الدينية المسيحية ولكنها تخلت اليوم عنهم وتركتهم يواجهون مصيرهم المحتوم بل تأمرت عليهم لصالح أطماعها ومخطط التقسيم الذي سيكون الكيان الصهيوني والامبريالية العالمية أهم المستفيدين من وراءه,فالمسيحيون العرب الذين لطالما اعتبروا أنفسهم وحدويون واحتضنوا كل المشاريع النهضوية العربية منذ الخديوي إسماعيل في مصر ومارون النحاس في سوريا ولبنان وسقطوا جنبا إلى جنب مع إخوتهم المسلمين في ميادين الشرف دفاعا عن العرض والأرض والمقدسات الإسلامية قبل مقدساتهم ,باتوا يذبحون في صمت أمام مسمع ومرأى العالم اجمع وإزاء تواطؤ عربي رسمي مفضوح أما الجامعة العربية التي لا تحسن سوى الشجب والتأمر كما فعلت مع سوريا وحزب الله وقبلهما بفلسطين والعراق والحبل على الغارب فتقف كنقطة في نهاية السطر.
ولكن تعلمنا من التاريخ العربي الذي مرت به احن ومحن وكوارث كبرى أن الإنسان العربي لا بد أن ينهض من كبوته ليطرد الغزاة الغاصبين عن أرضه وهكذا كما عودنا مسيحيو الشرق دائما أنهم يقفون سدا منيعا وحائط صد أمام كل محاولات التفرقة والفتنة الطائفية وبأنهم مهما طال الزمن أو قصر سيحدثون المعجزة برأي الكثيرين وهى أن يبقوا في أوطانهم العربية رغم كل ما تحيكه القوي الإقليمية والعظمى ضدهم وضد تاريخهم ودينهم وحبهم للحياة ولكن ميكانيزمات واليات التطور الطبيعي لأمم القوية علمتنا انه كلما زادت الضربات ضدها كلما أعطاها ذلك مناعة ذاتية ضد الاضمحلال والتشرذم والذوبان في محيطها ,فالانهزام لا يعني نهاية المعارك بل بدايتها وسنقف يدا تضرب من حديد ضد كل من يريد تدمير أوطاننا سواء كنا أو مسلمين اومسيحيين لان حضارتنا واحدة ومصيرنا قد أصبح مرتبطا ببعضنا البعض منذ ألاف السنين وستكون فلسطين كما كانت دوما قبلتنا ووجهتنا الجامعة لنا ,فهي رمزنا وعزنا وجامعة لديانات السماوية الثلاث التي هي عنوان الشرق العربي القديم
.بقلم عميرة أيسر-كاتب جزائري

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *