-->

حلم الوصال

بقلم: النانة لبات الرشيد

في الرابعة من عمرها، طرقت الباب بعد أن قضت مع أترابها سويعات تلهو بالتراب والقاذورات.. طرقت الباب الخشبي بيديها الصغيرتين الملوثتين، وعندما ردد أحدهم السؤال عن الطارق أجابت : "ل _ر "!!!
كان الاسم الذي ذكرت اسم والدها الذي لم تعرفه ولم تره، فقد ولدت في كنف جدها وجدتها اللذين كفلاها بعد طلاق والديها وهي جنين، وبعد انتقال والدتها إلى حيث زوجها الجديد .
كيف اهتدت الطفلة الصغيرة لاسم والدها المجهول؟ بل كيف اختارت اسمه كي تفاجئ العائلة بزائر لا ينتظرون قدومه وقليل منهم من يذكره ؟
ما الذي دفعها الى تلك الخطوة التي لا تزال الجدة الطاعنة في السن تذكرها، وتستدل بها على ذكاء الطفلة الباهر؟
هي طبعا لا تذكر القصة، بل هم رواتها، وقد ظل تصرفها ذاك مصدر تندر واستغراب.. يتندرون بالصبية المراوغة رغم صغرها ويستغربون ذكاءها الذي عرفها باسم والدها وسط قصص وأمثال ومواقف تسمعها اثناء السمر والحديث بين افراد العائلة، ويستدلون في مرات كثيرا على صدق المثل الصحراوي القديم القائل بأن " ولد البنت هو مسمار الشاكلة " أي أنه لخداعه ونكرانه تريبة أخواله إذا ما هم ربوه يصبح كمسمار مثبت في الخاصرة، مؤلم وغائر... وخاصرة الخؤولة لا تقبل أبدا أن يحتفظ الابن المكفول باسمه الأصلي، ولا بحثه عن والديه الحقيقيين.. في نظرهم ورغم عاطفتهم الجياشة يعتبر هذا الفعل مرادف الجحود والنكران.
كلما كبرت كبر السؤال المبهم بمخيلتها الصغيرة الصافية، و كلما ازدادت مساحة انتباهها للكلام المتناثر هنا وهناك من زوايا اللقاءات العائلية ببيت جدها الكبير حول نسبها وعائلتها و وضعية والدها ، كانت عاطفتها تتسع لمجهول لا تدري ملامحه .
والدها المجهول مقاتل.. محارب في جيش البوليساريو المقاوم ضد الاحتلال المغربي، وفي سنها الطفولي ذاك، و في كل مساء تتحلق العائلة حول مذياع عتيق تنبعث منه أمواج إذاعة الصحراء الغربية كل مساء، اعتاد معدو برامجها أن يبثوا تسجيلات صوتية لعمليات عسكرية يخوضها الجيش الصحراوي، كانت تسمع دوي القنابل والطلقات النارية، وأصوات المقاتلين وهم يهللون ويكبرون.. تتابع كل ذلك بقلب صغير يرتجف من الخوف والحيرة، وتجعل تلك اللحظات الجو العائلي كله مشحونا بالرهبة والقلق والترقب، فوالدها ليس الوحيد وليس أهم من في تلك الجبهة الملتهبة، بل يوجد شقيقان لوالدتها, وعندما يبدأ مذيع الراديو بتلاوة لائحة الغنائم والمغارم والأسرى والشهداء تبدأ جدتها بتلاوة القران والأدعية والتعاويذ، تتضرع بها الى الله كي يحفظ ولديها.. وكانت الطفلة تردد في سرها مع الجدة تلاوتها حرفا حرفا لكنها تتضرع إلى الله في الختام لحفظ والدها.
تنامت الأسئلة وتضاعفت في عقلها الصغير البريء.. لم يعد السؤال واحدا: من أبوها أو ما ملامحه ؟ بل تعددت علامات الاستفهام: من نحن؟ وما هذا اللغز الذي يسمى الصحراء الغربية ؟ ما سر منفانا؟ ماهي المخيمات ؟ و ما هاته الحرب ...؟
أيام أخرى وأصبح المجهول مجهولين: أب ووطن !! أصبحا وجهين لعملة واحدة، وسرين كبيرين جدا ومخيفين في آن واحد، وثقلا يحمله فؤادها الطفولي المرهف، وفي عينيها يتسع بريق الاستغراب المؤلم كلما تسلطت الأسئلة التي لا إجابات لها .
لم تكن رغم سنها تطرح الأسئلة من قبل، لكن موقفها العفوي السابق بلبل الطفولة في جوهرها.. فقد تلقت يومها المشهود ذاك وابلا من اللوم والتعنيف الجارح :
_أنت الصغيرة كيف اهتديت لاسم والدك الذي لا تعرفين ؟
_ هل هذه هي نتيجة تربيتنا ورعايتنا لك؟ رغم كل شئ ورغم تخليه عنك تذكرينه كأن لك معه ذكريات مشتركة ؟
تلك الردود آلمتها وأحدثت شروخا عميقة في نفسها، لا تزال ندوبها في ذاكرتها إلى الان، وقد جاوزت عقدها الثالث.. ذلك التعنيف حال بينها وبين القدرة على طرح أسئلة أخرى تتعلق بوالدها، لكنها ظلت تلح إلحاح الصبية الأذكياء على معرفة وطنها وسر منفاها، فكلاهما كان سبيلا للوصول إلى الآخر، أي منهما عرفته لاشك انه سيوصلها لمعرفة الطرف المجهول الآخر.. هي التي بدأت حياتها بجهل أوغياب أهم عناصر الحياة والوجود: الأب والوطن.. فمع من ستكبر؟ ومن مرشدها ودليلها في الحياة وهي الصبية والطفلة والأنثى ثم المرأة بعد ذلك ، و لمن تكبر وتعمل ومن تفيد؟ وأين ستمرح وتلهو وتكبر وتشيخ وتدفن... لا أب و لا وطن .. يا لقسوة الحياة .
لم يخبُ يوما شغفها بمعرفة أهم مجهولين في حياتها، وعندما وطأت قدماها مخيمات اللاجئين الصحراويين لأول مرة وعمرها ست عشرة سنة بكت.. كان قد مضى زمن الطفولة وبدات تنضج وتتضح معالم شخصيتها.. فها هو وعيها السياسي يكبر، واحلامها تكثر وتتسع.. والاهم من ذلك كله انها قد بدات قبل ذلك التاريخ تحدد مشوارها الادبي كشاعرة لها مستقبلها..
في زيارتها الاولى للمخيم دخلته مساء و قد لف الظلام جميع الخيم والبيوت الطينية، وخيم الصمت عليه بشكل مخيف.. وأوحى لها مشهد الخيم المتراصة الصامتة واشعة النور الخافت المتناثر ما بين زوايا البيوت المتجاورة بالحزن العميق والكأبة.. من هنا كان يرتحل أبوها، والى هنا يعود بعد كل إجازة عسكرية.. وهنا يرتبطون كلهم بأواصر القرابة أو الانتماء.. ومن هنا، من هذا المخيم الصامت الحزين تقول لنفسها:" لا بد أن أضع خطواتي الاول نحوهما"
لم يكن لقاؤها الأول بأبيها حار العواطف ولا مثيرا، لم ينتبه الحضور كثيرا لمشهد اللقاء الاول ذاك ، ولجت خيمته.. كان قد عاد لتوه من ناحيته العسكرية، فقد أتى في إجازة استثنائية للقائها ولكنه لم يتعرف إليها عندما بادرته بالسلام.. سألها: من أنت؟ اخبرته بخجل انها هي ,, هي ابنته الكبرى، هي أول ذرتيه وآخر من يشغل حيزا بذاكرته وقلبه.
في ذلك المساء الصيفي الدافئ وضعت وإياه أولى أسس علاقة مميزة، في زمن غير طبيع.. لقد اختارا أن يبدآ فصول صداقة قوية بين ابنة تنوي المسامحة والصفح الكفيلين بخلق بعض السلام والطمانينة، وبين أب يحاول أن يوفق بين التزامين كلاهما يتوقف عليه وجوده وحياته..
وهكذا تصادقا وترافقا وتحملا بعد كل ذلك همومهما سويا، وكانت سعيدة باتخاذها مكانا بقربه، تسانده في توجيه أشرعة حياته المتقلبة، فاختارها دون كل ذريته كي تكون اخلص الناس اليه .
لكن.. في شروخ غيابه المرير، وهوة الاغتراب السحيقة التي رماها فيها، وفي خطوط وجهه الاسمر المليئ بالانكسار والاحباط وخيبة الامل، يتراءى لها بقايا مرحه، وبقايا حضوره ووهجه العاطفي الذي لم يعد يعرف به كسابق عهده ، وفي غمرة بحثها فيه عن ملامح أفق جديد، تواصل جمع شتات ذاتها المتطلعة إلى جدار سميك تستد إليه ظهرها، وتركن فيه إلى سلام حتى حين ...

Contact Form

Name

Email *

Message *