ذكرى رحيل الأسد او رجل الحرب الذي ندم على توقف الحرب فرحل قبل أن يراها تشتعل من جديد ..
هذه قصتي مع الإنسان المختلف الذي سيصبح في ما بعد ورغم فارق السن واحدا من أعز الأصدقاء ..
في أحد أيام شهر اوت من العام 2013 تلقيت إتصالا من عضو الأمانة الوطنية وزير الشؤون الخارجية الأخ محمد سالم ولد السالك وهو على الصعيد الشخصي بمثابة أب وأخ وصديق عزيز .. إقترح علي أن نذهب معا لزيارة صديق له فوافقت على الفور ..
مر علي بمكان عملي وغادرنا الشهيد الحافظ بوجمعة ولم أكن أعلم حتى تلك اللحظة من هو صديق الوزير الذي سننزل في ضيافته بعد قليل ولم أسأل الوزير عنه بل كان صديقي طوال الطريق يسألني عن العائلة وعن العمل وكنت بين الحين والأخر أسأله عن ظروف عمله وصحته في ظل تنقلاته الطويلة والمستمرة بين القارات مرافعا ومدافعا عن قضايا أمته وشعبه وحاملا رسالة سلام ومحبة من شعب مكافح مناضل مسالم الى كل شعوب وثقافات وحضارات وديانات هذه المعمورة ..
المهم .. وصلنا وجهتنا ونزلنا من السيارة ودخلنا بيت مضيفنا دون إستئذان مسبق طبعا .. كان رجلا يبدو أن سنوات العمر قد تقدمت به ذو ملامح صارمة ونبرة صوت مميزة مهيبة، كان ذلك الرجل يجلس في وسط البيت .. لم ينهض للسلام على صديقه الأخ الوزير بل بقي جالسا وتقدم الوزير منه وإنحنى إليه أكثر ليقترب من رأسه وجانب وجهه الأيمن فعانقه وهو يضحك ويبتسم وكان الرجل هو الأخر يضحك ويبتسم ويحاول أن يشد ذراعيه ليحتضن صديقه أكثر ففهمت من تلك الحركات وأنا لازلت واقفا أنتظر دوري في السلام على هذه القامة المهيبة، فهمت أن الرجل ذو شأن عظيم وأنه مريض أيضا وأن سنوات العمر قد فعلت فعلتها بهذا الأسد الذي عجز عن القيام لمصافحة ضيوفه ..
جاء دوري للسلام فأنحنيت أنا الأخر مقبلا رأس الأسد الجالس وواضعا يدي عليه إحتراما وتعظيما ..
كان صديقي وأخي العزيز الصالح إبراهيم جالسا في ذات البيت وهو ينظر إلي ويبتسم الى أن تبادلنا السلام بأدب وبصوت خافت هذه المرة وليس كالعادة لأن اللقاء هذه المرة كان بحضور الأبوين الكريمين ..
بعد لحظات قليلة وبعد إنتهاء مراسيم السلام والسؤال عن الأهل والأصدقاء عرفني الوزير على الرجل ..
كان هذا الأسد هو المقاتل والمناضل بشاري ولد الصالح .. لم أكن أعرفه من قبل لكنني كنت وبكل تأكيد أسمع به، بعد لحظات قليلة سيعرفه الوزير علي ..
أخذ الأسد الجالس مجلة صغيرة كانت في درج الى جانبه وبدأ يقرأ أسماء محرريها .. كانت المجلة التي بين يديه هي مجلة "الأمل الصحراوي" التي كنت أصدرها رفقة بعض الزملاء والأصدقاء منذ كنا في مقاعد الجامعة .. أخذ الرجل يقرأ الأسماء واحدا تلوى الأخر ويسألني عن أباءهم الى أن وصل الى إسم صديقي وأخي العزيز عبدالله أحمين فسألني عن والده أحمد سالم أحمين وعن صحته وأحواله وأبناءه ففهمت أن الرجلين كانا رفيقا درب .. أخذ يحكي بعض قصصهم ومغامراتهم التي لا تنتهي في سنوات حرب التحرير الأولى .. كان يضحك ويبتسم وأحيانا كنت ألاحظ أنه يحاول إخفاء الدموع وهو يذكر ويتذكر بعض رفاقه الذين أستشهدوا في ميادين الشرف .. أخذ يحكي ويحكي وكنت أستمع وأستمتع .. شعرت من حديثه وأسلوبه الجميل الخفيف أن هذا الرجل الرائع سيصبح وقريبا أبا لي ولكن صديقا وأخا عزيزا أيضا .. وهو ما حدث بالفعل، في تلك الجلسة تبادلنا أرقام الهواتف الشخصية ..
مرت ثلاث سنوات ونيف بعد ذلك اللقاء الفريد وفي سنة 2018 وبالظبط بسفارة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية بالجمهورية الجزائرية كان اللقاء الثاني بيننا ..
إلتقيت الرجل الأسد صدفة ببهو السفارة .. كان متعبا كثيرا يتكي على "معكاز" لكنه نهض هذه المرة بينما كنت أجري مسرعا بإتجاهه كي لا أدعه ينهض لكن الأسد كان أقوى وأسرع مني رغم سنوات العمر وآثار المرض .. كان فرحا وكنت أيضا برؤية بعضنا البعض ..
في ذلك اليوم كنت سأساسفر مساءا لكنه طلب مني البقاء ليوم او إثنين قائلا : أنت شمعجلك .. ففهمته مباشرة وقلت له : طيب سأبقى معك الى أن تأذن لي بالمغادرة .. فضحك رحمه الله ضحكته الجميلة بنبرة صوته الرائع وهو يقول : لا لا المهم ألا شغلتك يا ولدي ..
بقيت معه أربعة أيام بالجزائر العاصمة وكنا نذهب كل صباح ومساء الى مقهى صغير في شارع ديدوش مراد الجميل ..
كان الرجل يحكي لي طوال الوقت عن الأوضاع السياسية للبلد .. عن الظروف الدولية وتوقعاته لمسار القضية الوطنية .. عن الماضي .. عن الحاضر .. عن المستقبل ..
كان الأسد يحكي وهو غاضب كثيرا، وفي كل مرة كان يقول ليتنا لم نوقف حرب التحرير بالسلاح .. كان يكررها في كل مرة كمقاتل شجاع وكمجاهد ثائر ثم يواصل حديثه بفلسفة وفكر وعمق وتحليل الدبلوماسي المحنك ..
إستفدت كثيرا من الرجل طيلة أربعة أيام لا تنسى وكنا لا نعود الى السفارة إلا حين يحين موعد تناوله للدواء الذي كنت قد حفظته وكنت أذكره بالأمر في كل مرة فقد فهمت أنه لا يهتم لصحته ..
عندما حان موعد مغادرتي الجزائر العاصمة كان وداعي الأخير للرجل .. قدم لي نصائح كثيرة ستظل معي الى الأبد وأوصيته فقط بأن "إدير بالو أعلا صحتوا" .. وعانقته كأب وصديق وكنت أشعر في قرارات نفسي بشيء من الحزن وأنا أودعها في ذلك اليوم ..
إنقطعت أخبار الأسد عني بعد ذلك وكان هاتفه لا يجيب في أغلب الأحيان الى أن سمعت بخبر دخوله في المستشفى وكنت وقتها عائدا لتوي من المناطق المحررة فقررت زيارته الى أن إلتقيت صديقي الصالح إبراهيم فأخبرني أنه في غيبوبة وأنه مريض جدا طالبا مني الدعاء له .. قررت حينها أن لا أزوره آملا وداعيا الله أن ينقذه لأزوره وهو في حال أفضل ..
لم أكن أريد أن أرى المجاهد والأسد وهو في مرحلة ضعف ووهن حتى ولو كانت تلك المرحلة سنة إجبارية لكل إنسان، لقد أردت لتلك الصورة المهيبة التي علقت بذهني عنه أن تظل هي الأخيرة دون غيرها ..
رحل بشاري الصالح .. او الرجل الأسد .. رحل أخيرا وغادر هذا العالم وهو غاضب كما كل المجاهدين .. غاضب لأن يوم النصر الذي كان بنظرهم قريبا وهم الذين إحتقروا الأعداء حد الإستخفاف بهم وبالموت وبكل شيء ماكانوا ليتوقعوا أن يرحلوا ومعهم أجيال من بعدهم بعيدا عن الوطن ..
رحل بشاري الصالح .. او الرجل الأسد .. لكنه لم يخن وطنه ولا قضيته .. لم يتهاون .. لم يتراجع .. لم يستسلم .. وظل على العهد متأكدا أن يوم النصر آت وإن طال الأمد والمعاناة وقد ظل كذلك الى أن وافاه الأجل المحتوم ..
نسيت أن أخبركم .. أن الرجل الأسد كان أيضا إنسان خفيف الظل .. يحب المزاح .. يحب الشباب. . لطيفا رقيق القلب حنون .. غير ممل ولا ثقيل الدم .. كريم .. مضياف .. محبوب .. رائع .. مميز .. لذلك صح لي ان أصفه بالأب ولكن أيضا بالصديق رغم فارق السن .. وبرحيله فقدت شخصيا أبا وصديقا وفقد الشعب الصحراوي أسدا ومجاهدا ومقاتلا شرسا وشجاعا ..
وثمة صورة للرجل وهو يبتسم ومسامير الجراحة وهو وفي كامل وعيه تخترق أحشاءه .. هذه الصورة تختصر حياة رجل عظيم ..
وختاما يقال .. " .. ليس للأسد أي مجموعات ولا طوائف ولا أحزاب ولا مذاهب .. الأسد هو الأسد .. يهابه الجميع .. يثير الرعب في نفوس الجميع .. يبعث على الإطمئنان في نفوس الجميع .. وكل واحد فينا يتمنى أن يصبح أسدا مثل الأسد .. " ..
عبداتي لبات الرشيد