-->

الأستاذ محمد يحظيه ولد أبريد الليل: "اتفاقية مدريد أوقعت موريتانيا في بركة الزفت"

تقديم: د. غالي الزبير
في الوقت الذي ظلت مواقف العديد من المثقفين والسياسيين الموريتانيين من القضية الصحراوية تتراوج بين التجاهل والتحامل تبرز اسماء على ندرتها تعبر بصدق عن الوعي الكبير بعمق الروابط التي تجمع شعب واحد قسمته الجغرافية إلى بلدين متجاورين تفرض عليهما روابط الدين ووشائج القربى ووحدة المستقبل أن يحس كل منهما بأن مصيره رهين بمصير أخيه وأن كل طارئ في حياة أي منهما ينعكس حتما على مستقبل الآخر.
ولعل من بين هذه الأصوات المعبرة عن أصالة الشعب الموريتاني الذي ورطه بعض سياسييه في العدوان على الشعب الصحراوي ذات يوم الاستاذ الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل الذي يعتبر قامة سامقة في التاريخ السياسي الموريتاني الحديث فرغم حصوله على شهاداته الجامعية من المعهد العالي للصحافة في باريس في أواسط ستيتنات القرن الماضي فإن دراسته في الغرب لم تلغ شعوره القومي والوطني – حالة الكثيرين- بل أصبح صوت الأصالة العربية في بلده الخارج لتوه من ظلام قرن من الاستعمار الفرنسي، ذلك الشعور العميق الذي كلفه سنوات طويلة من التنقل بين السجون والمعتقلات لازال يرافقه وهو يرافع بقلمه ومواقفه الجريئة عن اخوانه "البيضان" عبر نقاط تواجدهم من أزواد حتى واد نون.
وضمن مقالة للاستاذ محمد يحظيه ولد أبريد الليل كتبها منذ مدة حول المسألة الأزوادية تناول بالشجب التقاعس الذي مارسه سياسيو موريتانيا ذات يوم عن واجب النصرة تجاه اخوانهم في الصحراء الغربية في مراحل مختلفة من تاريخهم الحديث معرجاً على فداحة الخطأ بل الخطيئة التي وقع فيها المختار ولد دداه بمشاركته في المؤامرة الجبانة على الشعب الصحراوي من خلال التوقيع على إتفاقية مدريد الغادرة التي تمر هذه الايام الذكرى التاسعة والثلاثون على توقيعها لتكون شهادة خزى وعار تضمخ جباه من وقعوها إذ أثبتت الايام بعد مرور هذه العقود الأربعة أن الشعب الصحراوي أقوى من الغدر والتامر.
أقتبس هنا فقرات من مقالة ولد أبريد الليل الجديرة بالتمعن والتأمل كصوت حر يعبر عن موقف المثقف التقدمي القادر على نقد الوقائع والمواقف مسلحاً بأدوات التحليل العلمي مقدما قراءته الاستشرافية من خلال نقد الماضي القريب لعل صوته يلقى أذانا صاغية.
"... لقد أدرك بعضنا على قلتهم، مصيبتنا في الصحراء الغربية (الاسبانية سابقا) إبان حركة الزملة عام 1970؛ أما الدولة فقد آثرت تجاهلها ومقاربتها من حيث ما كان ينبغي لها، على انها مشكلة تصفية استعمار مجهول، كما لو أن الأمر يخص بابوازي- غينيا الجديدة.
وبالفعل فقد كان ينبغي عام 1970 شن حرب تحرير الصحراء من الاستعمار الاسباني، وحينها كان وجه المنطقة كلها سيتغير.
لو أن الألف قتيل وما يقارب ضعفي ذلك أو ثلاثة أضعافه من الجرحى كانوا من أجل تحرير الصحراء لكان حال البلاد اليوم مختلفا وأفضل بكثير، وعلى وجه الخصوص، فإن معنوياتنا لن تكون هي ذاتها اليوم. لقد أخفقنا عام 1970 في قضية الصحراء الغربية لأننا تخلينا عن واجبنا في الوقت المناسب.
في السياسة يبدو أن هناك لحظة مثلى يكون فيها الفعل ملائما تماما ومتسقا مع الهدف. إن انقضاء هذه اللحظة دون استغلالها - أو حتى الشعور بها - يجعل المصادفات الأخرى مجرد شواهد على الصغة النادرة الأصلية، وتصبح حينها الجهود المطلوبة خارجة عن القدرة مع نتائج هزيلة قد تصبح تافهة بل مضرة.
إن العمل السياسي ليس حياديا في غالبه الأعم، إنه يؤثر بطريقة أو بأخرى في الميزان، بدرجة أو بأخرى، في المدى القصير أو الطويل إما لجهة التحفيز أو التثبيط.
لقد كانت انتفاضة الزملة أول تمرد واع ضد الاستعمار الاسباني، وكانت بقيادة أول زعيم وطني صحراوي: (بَصِيري) الذ توفي بالمناسبة تحت تعذيب شرطة افرانكو. حينها لم يرتفع صوت بإدانة هذه الجريمة من طرف الدولة الموريتانية. والذين هربوا خوفا من بطش الشرطة الفرانكسيتية كانوا يخشون في ذات الوقت الرماة الاسبان والدرك الموريتاني. ولحسن الحظ فإن الجراب مثقوب من شمال، وهكذا استطاع الناجون الذوبان في السكان. وفي خضم هذه الأحداث تم تأسيس جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب بحماية من موريتانيين مجهولين، ودائما مع الخشية من أن يكتشف الأمر من طرف السلطات الموريتانية. وقد تم توجيه الرسائل الأولى التي تحمل رأسية الجبهة إلى كل الدول العربية وإلى بعض الدول الأخرى وذلك عام الزملة.
لقد قُمعت المظاهرات المؤيدة لتحرير هذه المنطقة والمنظمة بانواكشوط في يونيو 1970 وفي السنوات التالية تخليدا لانتفاضة الزملة من طرف الشرطة، بنفس الصورة التي تقمع بها المظاهرات المطالبة بتأميم ميفرما، أو ترسيم لغة البلاد المكتوبة: "العربية"، أو تلك التي كانت تخلد مذبحة عمال ازويرات.
إن أول مؤتمر للبوليزاريو تم عقده في السرية بزويرات في جو من الخوف من أن يتم تسليم المؤتمرين إلى إسبانيا افرانكو. وحين وقع التقسيم الأرعن واندلعت الحرب المقيتة في الصحراء الغربية أظهرت الدولة الموريتانية المضطربة كامل عدم تبصرها وعجزها. لقد وقعت في بركة الزفت الشهيرة التي لا يمكن الخروج منها أبدا. ومن جانب السكان الصحراويين لم تكن الدولة تحظى بأبسط تأييد. ولم تحظى به؟ لقد تجاهلتهم طيلة سبعة عشر عاما من وجودها ما بين 1958 و1975 وعملت كما لو أن الزمن سيقوم بإزالتهم.
غير أن الشعوب ذات التقاليد الطويلة في النضال والمقاومة لا تموت أبدا، وكان الأجدر أن لا تُذَكَّرَ بما تعرفه جيدا: أي الحرب، الأمر المتأصل منذ القدم في طبائعها الوراثية.
ليس الأمر سيان بين من تُـنِـيمُه أمه على إحساس الخوف من الحيوانات المفترسة، وبين من ينام مزهوا بحكايات أمه عن أبيها الذي حاصر وحده الأعداء، وعن جدها الذي مات بطلا بعد أن فتك بعشرة من الأعداء، وعن خاله الذي قضى وحده على خمسة رجال مسلحين.
كان من المفترض أن لا ننسى أبدا أن الصحراويين جزء من البيظان، وأنهم بيظان لم يخضعوا للتدجين الذي مورس منذ عام 1958.
لقد أوقفت حركة العاشر من يوليو الحرب بين الأشقاء وشلال الدم. كان ذلك أقل الواجب، غير أن المرض الأصلي الذي عمقت حرب الصحراء خطورته. بقي على حاله وسيلاحقنا، طالما لم تقض وثبة عظيمة من التآخي والإيثار في وعينا الجماعي على هذا الشعور بأننا أخفقنا بشكل خطير ومستمر في أداء واجبنا....".

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *