وداعا الأسطورة الحاجَّةُ فاطمة
وداعا الأسطورة الحاجَّةُ فاطمة: أم شهيدين وأسير ترحل يوم الجمعة 20 مايو..
مثلما عاشت فاطمة الحاجة، أم الشهداء، أسطورة حية في مخيمها الصغير دائرة الدورة ولاية العيون، رحلت أيضا رحيلا أسطوريا كانت تحلم به.. لم ترحل في صمت، رحلت في يوم جمعة مباركة محفوفة بزغاريد الملائكة الزرق، وحولها يُحي شعبها الذكرى الثالثة والأربعين لاندلاع الكفاح المسلح رافعا أعلامه الملونة في الأفق، وفي السماء ترفرف أرواح الشهداء الذين عاشت تتذكرهم ومنهم إثنان من أبنائها: سيدمو وبركة، والثالث، محمد، أسير، من مجموعة ال66 الشهيرة، قضى أكثر من إثنى عشر سنة في سجون العدو ..
في خريف سنة 1975م استقبلنا الحاجة فاطمة محمد سيدي عباس في العيون، وهي عائدة لتوها من الحج رفقة أبنها البار سيدمو. كانت فرحة بعودتها من الحج، وكان سيدمو، أبنها، يحفها بالرعاية من كل جانب، إلى درجة أنه كان يُظلل فوق رأسها بدراعته في ذلك اليوم المشمس .. كان حدث عودتها من الحج حدثا فريدا في حياتها، وفرحت له فرحا كبيرا.. فهي، ربما، كانت من النساء الصحراويات القلائل اللاتي أدين فريضة الحج في زمن الاستعمار الأسباني. بفضل تلك الرحلة إلى مكة المكرمة حملت اسم الحاجة، فغلب حتى على اسمها الصحيح. فإذا زرت دائرة الدورة وسألت عن أين هي خيمة فاطمة سيدي عباس ربما لن يعرفها احد، لكن إذا سألت عن الحاجة فيقولون لك: "وخيرت.. إنها هناك."
استشهد ابنها سيدمو فخلدت للحداد
وإذا كنا استقبلنا الحاجة في سنة 1975م وهي في غمرة فرحها بحدث حجها إلى مكة فإننا سنزورها في صيف سنة 1979م لنقدم لها التعازي في أسوأ حدث عرفته في حياتها..في عملية لبيرات استشهد ابنها سيدمو، ورغم أن الشهداء كانوا آنذاك يسقطون يوميا في ساحة الشرف، والناس لا يعرفون لمن قدموا التعزية ومن لم يقدموها له إلا أننا ذهبنا إلى تعزية الحاجة لإننا نعرف قيمتها عند ابنها سيدمو الذي اسشتهد في عملية لبيرات. تسللنا برهبة إلى خيمتها التي كانت غاصة بالمعزيين، لكن بدل أن نجدها مكسورة تولول وتخمش وجهها حدادا وجدناها في حالة طبيعية عادية جدا.. سبحان الله. كانت تمتلك قوة عجيبة وقدرة غريبة على قهر الحزن وهزيمته في داخلها، حتى لتخال النساء المحيطات بها هن المفجوعات وهي القادمة للتعزية.. لم تبتل لها عين أو تتغير ملامحها، رغم هول الصدمة، ورغم جداول الألم التي كانت، بكل تأكيد، تسيل في داخلها. ورغم أن بركة ومحمد كانا لازالا معها إلا أن استشهاد سيدمو جعلها تعتزل الحياة، وتعتكف في خيمتها مع مذياعها وصوت الشعب الصحراوي، الإذاعة الوطنية خاصة اللحن المميز للمعارك وأغاني المرحومة مريم الحسان.. بسبب تعلقها بسيدمو طلب منه رفاقه في آخر رخصة قبل أن يستشهد أن يحاول أن يعود للعمل في الخلف في الربوني غير بعيد عن المخيمات، لكنه حين أخبرها قالت له كلمتها الشهيرة:" ما إردها حد وراءك عنك استاخرت عن رفاقك." ذهب سيدمو ولم يعد..
أصبحت خيمتها وسبحتها ومذياعها هي عالمها الوحيد في ذلك اللجوء الصعب معنويا وماديا .. ورغم أن زوجة ابنها الشهيد سيدمو العايزة وبناته كن معها باستمرار لخدمتها إلا أنها كانت تحلق بتفكيرها في عالم آخر من الرهبة والتعبد بعيدا عن جو المخيم.
الصمة الثانية والثالثة: استشهد ابنها الثاني بركة، ووقع ابنها محمد في الأسر
في غمرة حدادها الطويل على الشهيد سيدمو، ومحاولتها التسلي بوجود إبنيها محمد وبركة، إلا أن المصائب والصدمات لا تأتي فرادى. في يوم مغبر من تاريخ المخيم دخلت سيارة قسم الشهداء إلى دائرة الدورة لتصدم\ لتخبر الحاجة للمرة الثانية: بركة الابن الثاني استشهد.. تكسرت النصال على النصال، وأصطدمت الصدمة الثانية بالأولى في قلب الحاجة. تقبلت الأمر كقضاء وقدر وواصلت اعتكافها الأبدي مع مذياعها ووحدتها.
بقى أبنها محمد يحاول، كلما تواجد في رخصة، أن يلملم الجراج الخفية لوالدته الحاجة، لكن هو أيضا كان ينتظره قدره: وقع في الأسر لينتقل من زنزانة إلى زنزانة حتى أستقر أخيرا في سجن لقنيطرة الغربي الرهيب..
بقيت الحاجة وحيدة في خيمتها تعيش عالمها الروحي تتعالى وتسمو بمعنوياتها في ذلك المخيم الصغير الذي أصبح، كله، يحبها ويقدرها.. وجود العايزة، زوجة سيدمو وبناته بجانبها كان يقلل عنها الضغط المعنوي الكبير الذي كان يحاول تحطيمها وتدميرها.. حاولت العايزة أن تعوض للحاجة خسارة سيدمو والابناء الآخرين، وأن تسد أي نقص يحدث في نفس الحاجة. حاولت أن تكون، في نفس الوقت، هي البنت وهي الإبن وهي سيدمو وبركة ومحمد، وتكون هي الجارة وهي الصديقة.. أقترح الكثير من الناس على الحاجة، بما فيهم إخوتها، أكثر من مرة، أن تنتقل إلى السمارة، لكنها كانت لا تعوض العايزة بأي أحد آخر. كانت تقول: " سأبقى مع العايزة الله إجازيها. الله إربحها."
عاشت في المخيم رغم فساد المسئولين، ورغم الظروف، ورحلت وهي لا تعرف الرابوني ولا الكتابة العامة ولا الهلال ولا الرئيس ولا الحكومة ولا المساعدة ولا المطالب. عاشت قوية قنوعة متماسكة تتحدى كل شيء بصمت وصبر عجيبين. وحتى حين كانت بعض النساء تنصحها أن تذهب إلى الرابوني وتطلب الدعم بسبب أن كل ابنائها استشهدوا أوقعوا في الأسر، كانت تقول بكبرياء: " ناقصة. ما إردها حد عني." قاومت رغم الخسائر النفسية التي لحقت بها حتى رحلت مثل أسطورة. رحمها الله.
السيد حمدي يحظيه