-->

وسطيّة ” مُتعة المسلم “


جعلَ الله الأرضَ للإنسان مِهادًا وفِراشًا، وجعلَ له فيها مُستقرًّا ومتاعًا إلى حينٍ، وبارَكَ فيها وقدَّرَ فيها أقواتَها، سخَّر له ما في السماواتِ والأرض، وسخَّرَ الليلَ والنهارَ، والشمسَ والقمرَ، وسائرَ مخلوقاتِه لمنافِعِ العبادِ وأنواعِ مصالِحِهم.
ومِن حِكَم تسخير المنافِعِ: تمكينُ المُسلم مِن الاستِمتاعِ بما أحلَّه الله، فيُمتِّعُ المرءُ نفسَه بطيِّباتِ الحياةِ ومتاعِها.
قال – صلى الله عليه وسلم -: «فإن لجسَدِك عليه حقًّا، وإن لعينِك عليك حقًّا، وإن لزوجِك عليك حقًّا، وإن لزَورِك عليك حقًّا».
وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32].
وقد دعا – صلى الله عليه وسلم – إلى إظهار ما في دينِ الله مِن فُسحةٍ لمُتَع الحياة التي ترفعُ طاقةَ النفس، وتُحفِّزُها للعمل.
فحين شاهَدَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – الحبشَةَ يلعَبُون قال: «لِتعلَمَ يهودُ أن في دينِنا فُسحة».
ويقولُ عليُّ بن أبي طالبٍ – رضي الله عنه -: “إن القلوبَ تمَلُّ كما تمَلُّ الأبدان، فابتَغُوا لها طرائِفَ الحِكَم”.
ويقولُ أيضًا: “روِّحُوا القلوبَ ساعةً بعد ساعةٍ؛ فإن القلبَ إذا أُكرِهَ عمِي”.
ويقولُ أبو الدرداء – رضي الله عنه -: “إنِّي لأستَجِمُّ قلبِي باللَّهو المُباح ليكُون أقوَى لي على الحقِّ”.
ورسولُنا الكريمُ – صلى الله عليه وسلم – يقول: «يا حنظَلَة! ساعةً وساعة».
قال عُمر بن الخطَّاب – رضي الله عنه -: “كان القومُ يضحَكُون، والإيمانُ في قلوبِهم أرسَى مِن الجِبال”.
فهذا الترويحُ والاستِمتاعُ لا يُضعِفُ إيمانَهم، ولا يُفسِدُ أخلاقَهم، ولا يتعدَّى على أوقاتِ الصلاةِ وذِكرِ الله وقِراءةِ القرآن.
استِمتاعُ المُسلم بما سخَّره الله مِن المنافِعِ والخيراتِ يُبنَى على مبدأ التوازُن، ويُغذَّى بالاعتِدال، فتعيشُ الفِطرةُ فِطرتَها، وتستمتِعُ بما أباحَ الله، مع إشاعةِ السُّرور والبهجَةِ، خاصَّةً في مُناسبات الأعياد والأعراس.
يُثابُ المرءُ ويُؤجَرُ حين يُمارِسُ مُتَع الحياةِ في إطار الشرع وقواعِدِ الدين؛ قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «وفي بُضعِ أحدِكم صدقَة». قالوا: يا رسولَ الله! أيأتِي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ، أكانَ عليه فيها وِزر؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلالِ كان له أجرٌ».
وقال – صلى الله عليه وسلم -: «حُبِّبَ إليَّ مِن الدُّنيا النساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عينِي في الصلاةِ».
طِيبُ الحياةِ ومُتعَتُها مِن صُور تقديمِ ثوابِ الله لعبادِه المُؤمنين، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98].
وكلما زادَ قُربُ العبدِ مِن مولاه عاشَ مُتعةَ الحياة وتلذَّذَ بها؛ فالمُتعةُ ثمرةُ العمل الصالِح؛ قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
وأعظمُ جالِبٍ للمُتعة: لُزومُ الاستِغفار الذي به تتحقَّقُ الخيراتُ والبركات، ويُدفَعُ به البلاء، ويُدَرُّ الرِّزقُ، ونُسقَى مِن بركاتِ السماء، وتُخرَجُ لنا بركاتُ الأرض، ونُمَدُّ بأموالٍ وبنِين؛ قال تعالى: ﴿{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12].
المُتعةُ في حياةِ المُسلم رَحبةُ المعنى، واسِعةُ المفهوم، تنشَأُ مِن أهدافٍ سامِية، وترتبِطُ برِسالةِ الدين وأخلاقِه وآدابِه؛ بل إن المُتعةَ وسِيلةٌ لتأدِيةِ الرِّسالة، وليسَت غايةً تُطلَبُ لِذاتِها، وإلا أصابَت بالمُيُوعة والوَهَن والانحِراف.
المُتعةُ في حياةِ المُسلم لا تحُدُّها زينةُ الحياة الدنيا، ولا تقتَصِرُ عليها؛ بل هي مُمتدَّةٌ إلى نعيم الجنَّة الذي يُنسِي كلَّ تعبٍ ومرارةٍ في الدنيا، فالمُسلمُ يُدرِكُ أن هذه الحياة الدنيا مهما طالَت فهي إلى زوالٍ، وأن متاعَها مهما عظُم فإنه قليلٌ ومُؤقَّتٌ؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ [النساء: 77]، وقال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد: 26].
ولهذا كلما تذوَّقَ المُسلم شيئًا مِن نعيمِ الدنيا ومُتَعها، تبادَرَت إلى ذِهنه مُتعةُ الجنة ونعيمُ الآخرة، فحَثَّ الخُطَى شوقًا إليها، وطمعًا في بُلوغِ اعلَى درجاتِها؛ قال الله تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[الشورى: 36].
الإيمانُ بالله، التوكُّلُ عليه، الصَّفحُ والعفوُ والتسامُحُ، غَرسُ الفرحة في نُفوسِ الضُّعفاء وقلوبِهم، ورسمها في عيونِهم وعلى وجوهِهم، السعيُ في حوائِجِ الناس مُتعةٌ وأيُّ مُتعةٍ.
جاء رجُلٌ إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله! أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: «سُرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، أو تكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَينًا، أو تطرُدُ عنه جُوعًا».
ومِن مُتعةِ الدُّنيا: مُتعةُ البَنِين والإخوة والأخوَات؛ فوُجودُهم أُنسٌ، وصلاحُهم غنيمةٌ، هم زِينةُ الحياة الدُّنيا وبهجَتُها، وكمالُ السعادة وأساسُها، وتزدادُ المُتعةُ مُتعةً بتقاسُمِك الفرحة مع إخوانِك ومَن حولَك، تفرَحُ لفرَحِهم وبهم، وتأنَسُ لسُرورِهم ولهم، وتتشارَكُ معهم لذَّةَ البهجةِ والفرحَةِ.
وتزهُو المُتعةُ بالنفسِ حين يُحقِّقُ المرءُ إنجازًا، ويعملُ نجاحًا، ويقطِفُ ثمرةَ تفوُّقٍ، كما يعيشُ أجَلَّ مُتعةٍ بعد الفراغِ مِن العبادة؛ فيفرَحُ في الصِّيامِ عند فِطرِه، وبالصلاةِ بعد أدائِها، وفي الحجِّ بعد أداءِ النُّسُك.
وتتعمَّقُ المُتعةُ في حياةِ المُسلم بالرِّضا بالقضاء والقدَر، واليقينِ بالله تعالى في كل ما حكَمَ وأمَرَ.
قال ابنُ مسعُودٍ – رضي الله عنه -: “إن الله بقِسطِه وعدلِه جعلَ الرَّوحَ والفرَحَ في اليقينِ والرِّضا، وجعلَ الهمَّ والحُزنَ في الشكِّ”.
وقال عُمرُ بن عبد العزيز – رحمه الله -: “أصبَحتُ وما لي سُرورٌ إلا في مواضِعِ القضاءِ والقدَرِ”.
العاقلُ يُقدِّرُ مُتعَ الدنيا بقَدرها، فلا يَغِيبُ عن ذِهنِه في أي حالٍ موعُودُ الله مهما بلَغَت زخارِفُ الحياة وراجَت؛ قال الله تعالى: ﴿{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 64].
والعاقلُ يحذَرُ المُتعَ الزائِفةَ التي تُورِثُ الحسرةَ والنَّدامةَ؛ فالمعصِيةُ عاقِبتُها ذُلٌّ وهمٌّ وألَمٌ، وما زالَت عن أحدٍ نِعمةٌ إلا بشُؤمِ المعصِية؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11].
وأيُّ حسرةٍ أشدُّ مِن مُتعةٍ تُورِثُ غضبَ الله وسخَطَه؟! قال الله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [غافر: 75، 76].
————————-
فضيلة الشيخ الدكتور / عبدالباري الثبيتي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *