-->

لماذا لم نُفاجأ بقرارات بوتفليقة التي نفّست الاحتِقان ودفعت بالآلاف إلى الشّوارع احتفالًا؟ وكيف قدّمت الجزائر درسًا في الحضاريّة والأخلاق لفرنسا ودُوَلًا عديدةً؟

فاجَأتنا الجزائر شعبًا وحُكومةً مرُتين: الأُولى عندما نزل الشعب إلى الشّوارع والميادين في احتجاجاتٍ حضاريّةٍ تفوّقت في سلميّتها وانضِباطها على جميع مثيلاتِها في العالم، بِما في ذلك “السّتر الصّفراء” في فرنسا، والثّانية عندما تجاوبت السّلطة مُمثّلةً في الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للمطالب الشعبيّة المشروعة، واتّخذ الرئيس قرارات بعدم الترشّح لعُهدةٍ خامسةٍ، وانطلاق ندوة للحوار الوطني تتولّى وضع الإصلاحات السياسيّة والاقتصاديّة المطلوبة وتحديد موعد جديد للانتِخابات وبإشرافِ لجنة مستقلة.
إنّه درس جزائري في السياسة والأخلاق والحضاريّة ستكون له أصداؤه في المشرق والمغرب معًا، يدفع الكثيرين، خاصّةً في السودان وتونس ومِصر وربّما ليبيا أيضًا إلى مُجاراته والاقتِداء به.
إدارة الأزمات، والسياسيّة منها خاصّةً، بطريقةٍ ناجحةٍ، ومُتقدّمة، تقود البِلاد إلى بر الأمان، وتحول دون الصِّدامات الدمويّة، فَنٌّ لا يُجيده الكثيرون، دولًا وزُعماء، خاصّةً في العالم الثالث، ولا يُضيرنا الاعتراف بأنّ المؤسسة الجزائريّة الحاكمة بشقّيها السياسيّ والعسكريّ، أثبتت من خلال هذه القرارات مدى براعتها، ونُضجها، وقُدرتها على تَحمُّل المسؤوليّة في أكثر الأوقات صُعوبةً، والتّجاوب مع المطالب الشعبيّة بعيدًا عن نهج العِناد والمُكابرة.
الجزائر “شاخت”، وتصلّبت شرايينها، وباتت تحتاج إلى دماء جديدة شابّة تقودها إلى الحداثة والتّجديد ومُحاربة الفساد، وبِناء الدولة العصريّة، والأخذ بيدها إلى المكانة التي تستحق بين الأُمم، والمأمول أن يُجسّد العهد الجديد هذه الطّموحات في المُستقبل القريب.
نعترف أننا أدركنا، وبعد أن اطّلعنا على تصريحات الفريق أحمد قايد صالح، رئيس هيئة أركان الجيش الجزائري التي أدلى بها أمس، وقال فيها “إن هُناك تعاطف وتضامن ونظرة واحدة للمستقبل تجمع الجيش والشعب”، أدركنا أن هذه “اللهجة” التصالحيّة المسؤولة، هي مُقدّمة لحُدوث انفراجٍ في الأزمة خاصّةً أنّها تزامنت مع عودة الرئيس بوتفليقة من رحلته العِلاجيّة في جنيف.
لا يُخامرنا أدنى شك بأنّ الشعب الجزائري الذي قدّم مثلًا نموذجيًّا في الاحتجاج السلميّ المدنيّ، سيدعم هذه المُبادرة “الإنقاذيّة” وسيُوفّر لها فُرص النُجاح، طالما أنّها تسير في اتّجاه تلبية مطالبه المشروعة في التّغيير الجذريّ من خلال إصلاحات سياسيّة واقتصاديّة تطوي صفحة الماضي بكل إيجابيّاته وسلبيّاته، وتفتح صفحةً جديدةً من الديمقراطيّة الحقّة، والمُحاسبة، والتّعايش، وتقديم الكفاءات على الولاءات الحزبيّة والعرقيّة والمناطقيّة.
من حق الشعب الجزائري أن يحتفل بهذا الإنجاز الكبير، وأن ينزل إلى الشوارع والميادين مُعانقًا لأشقائه رجال الأمن الذين كانوا العون والمُساندة والتّعاطف، فهم أوّلًا وأخيرًا من أبناء هذا الشعب، ومن الطّبيعي أن يتفهّموا مشاعره الوطنيّة الحقّة.
الجزائر، شعبًا، وحُكومةً، رئاسةً وأمنًا، ومؤسسة عسكريّة، خرجت مُنتصرةً رافعة الرأس، أمّا الجِهة الخاسرة، فهُم أولئك المُتربّصين الذين كانوا يُراهنون على الصّدام وعدم الاستقرار والعودة للعشريّة الدمويّة.
خِتامًا نقول بأنّ الرئيس بوتفليقة الذي قدّم العديد من الإنجازات أثناء فترة حكمه التي امتدت لعشرين عامًا، علاوةً على عقود أخرى أمضاها في خدمة بلاده في مواقع مُتعدّدة، أوّلها عندما تقلّد منصبًا وِزاريًّا وهو في 23 من العمر، هذا الرئيس، يستحق التّكريم وعلى أعلى المُستويات، ونأمل أن يأتي هذا التّكريم من الجميع، من الشّعب والمؤسسة العسكريّة، والحزب.
شُكرًا للشُقيقة الجزائر على هذا الانتصار الحضاريّ، الذي يُضاف إلى سجل انتصاراتها الكثيرة ويُشكّل علامةً فارقةً في تاريخ المنطقة، الإسلاميّ والعربيّ، انتصار صنعته الإرادة الشعبيُة بكُل أطيافها وألوانها على أرضيّة المُساواة والتّعايش والحِس العالي جدًّا بالمسؤوليّة.
“رأي اليوم”

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *