-->

استقالة هورست كولر وسقوط ورقة التوت عن مقولة “الحل السياسي التوافقي”


بقلم: ناجي محمد منصور
ظهرت في مراكز أبحاث إسرائيلية نظرية تسمى “مدرسة التغيير المفهومي”. وترى تلك النظرية أن تغيير وعي الناس يكون بتغيير البنية المفهومية الكامنة في أدمغتهم. وقد ركزت تلك المدرسة جل أبحاثها على كيفية تغيير وعي الفلسطينيين، من أجل تدجينهم وتحويلهم من شعب مقاوم جبار لا يشق له غبار في النضال والثبات، إلى شعب مستسلم، يرمي السلاح، وعلى استعداد لأن يوقع اتفاق سلام مع إسرائيل، ويعترف لها بالحق في الوجود. كأن يتم مثلا تعويض مفهوم “المقاومة” بمفهوم “المقاولة”، أو مفهوم “الكفاح المسلح” بمفهوم “التفاوض والنضال المدني”…إلى غير ذلك من التغييرات التي طالت النسبة الأكبر من الفكر الفلسطيني المقاوم، وأوصلت القضية الفلسطينية إلى ما أوصلتها إليه في الحقبة المعاصرة.
من الواضح أن الأمم المتحدة قد استفادت من تلك النظرية الإسرائيلية، في تعاملها مع القضية الصحراوية. لأن وقف إطلاق النار، جلب معه ترسانة من المصطلحات، أصبحت هي الإطار النظري الناظم لكل ما له علاقة بالصراع. وأصبحنا نقرأ الواقع ليس من خلال معطياته المباشرة ووقائعه الحية البادية للعيان، بل أصبحنا نقرأه من خلال شبكة المصطلحات التي أرستها منظومة الأمم المتحدة، وألزمت الأطراف بالتصرف والسلوك وفقها، دون تحمل عناء مساءلتها وتمحيصها على ضوء واقعنا الحي المباشر.
لقد نجحت الأمم المتحدة، بشكل من الأشكال، في تغيير وعينا من خلال تفكيك شبكة المفاهيم التي أسريناها منذ الثورة حتى غداة توقيع اتفاق وقف إطلاق النار. عندها بدأت آلة انتاج المصطلحات الأممية في تثبيت بنية مفاهيمية جديدة، وابتكار واقع جديد على ضوئها يتوافق مع أهداف المجتمع الدولي الجديدة في تعامله مع ملف الصراع بالصحراء الغربية.
ولعل أكبر مفهوم تم نحته من طرف المنظومة الأممية هو مفهوم “الحل السياسي التوافقي”. الذي أصبح لازمة في تقارير الأمناء العامين، ومبعوثيهم الشخصيين، وقرارات مجلس الأمن الدولي، وحتى تصريحات مسؤولي الدول والحكومات عند تناولهم لقضية الصحراء الغربية.
إلا أن مفهوم “الحل السياسي التوافقي” يظهر جليا تهافته، ويسقط أمام أي تحليل بسيط للأسس الأيديولوجية للصراع بين الشعب الصحراوي ونظام الاحتلال المغربي.
فكلا الطرفين يتصور “تقرير المصير” من منطلق الأيديولوجية الخاصة به والتي يبني على أساسها مشروعية نظامه السياسي. فالصحراويون يعتبرون أن تقرير المصير يعني تأسيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، التي تبسط سيادتها على كامل التراب الوطني الصحراوي، لها علمها الخاص ونشيدها الوطني الخاص، ومستعدة لربط علاقات تعاون مع جيرانها بمن فيهم المغرب. لأن الصحراويين قدموا التضحيات الجسام طلية أربع واربعين سنة من أجل تحقيق هذا الهدف، كما أن الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي، ظهرت في الأساس كتنظيم لتعبئة وتوجيه نضال الصحراويين من أجل نيل هذا الهدف النبيل والمشروع.
أما الطرف المغربي فإنه يتصور “تقرير المصير” ك “حكم ذاتي يمنح للصحراويين تحت (السيادة المغربية)، في إطاره سيتمكنون من تدبير شؤونهم المحلية في مختلف المجالات، من خلال مؤسسات منتخبة محليا”. ويرتكز هذا التصور على “أيديولوجيا الوحدة الترابية”، التي يروج لها النظام الملكي المغربي ويبني على أساسها مشروعية نظامه السياسي. ما يعني رفضه البات للاستقلال من الأصل، ما دام استقلال الصحراء الغربية يعني تآكل أهم مبدأ أيديولوجي يبني عليه النظام الملكي المغربي مشروعيته، وعلى أساسه يحقق من خلاله التفافا شعبيا مفترضا، ويحافظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني المطلوب لاستمراره على قيد الحياة.
من خلال هذه المقابلة ما بين الأسس الأيديولوجية التي ينطلق منها طرفي النزاع، يتضح لنا بشكل جلي تهافت مقولة “الحل السياسي التوافقي” وعدم قابليتها للتطبيق العملي، إذ كيف تتوافق إرادة الاستقلال وإرادة الاحتلال؟ وكيف تتوافق إرادة المستعمَر (بفتح الميم) مع إرادة المستعمِر (بكسر الميم)؟ وعليه فإن الخشية الأساسية من تحول المفاوضات ل “عملية” أو “مسار” هي خشية مشروعة، ولنا في تجربة الفلسطينيين مثالا حيا على ذلك، فقد تحولت المفاوضات إلى عملية عبثية لا معنى لها كرست الوضع القائم بل فاقمته في ظل هذا الانقسام الداخلي الفلسطيني ما بين جبهتين: جبهة تؤمن بأن المفاوضات هي الآلية الوحيدة لحل الصراع، وجبهة أخرى تؤمن بأن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لنيل الحق في الاستقلال والسيادة، وهو انقسام يعتبر إفرازا مباشرا لتلك المفاوضات العبثية.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *