الأسراب الجانحة رغبة جامحة في دعم الثورة الصحراوية
يقدم الدكتور محمد سعيد القشاط في كتابه "الاسراب الجانحة" الصادر في العام 1987 رؤية عن النزاع في الصحراء الغربية من زاوية معالجة تنطلق من الفلسفة الليبيبة في دعم الثورات العربية وحركات التحرر، ونظرتها الى الثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب، والدور الليبي الداعم في سياق السعي لتحقيق حلم الوحدة العربية.
وهو من الكتب النادرة التي يوفق فيها مؤلف عربي في طرق قضية الصحراء الغربية وعلاقاتها بجيرانها إبان حقبة الاستعمار الاسباني والتكالب الملكي الداداهي على الشعب الصحراوي وتقسيم ارضه ضمن مخطط استعماري، تسبب في قتل وتشريد الالاف من الصحراويين وهي الحرب المريرة التي كشفت عن معدن الصحراويين الثمين وجلدهم في مواجهة الاخطار والتصدي للاستعمار.
وبلغة ادبية شيقة وقدرة على استنطاق مكنونات الصحراء ومعرفة تضاريسها ومناطقها الجغرافية، بفراسة ونباهة منقطعة النظير، استطاع الكاتب ان يقديم نظرة متكاملة لارهاصات اندلاع الثورة الصحراوية، ونقل احداثها وتفاصيلها من ضبط للاسماء والاشخاص والمناطق والتواريخ بدقة متناهية، ما يوحي بان الكاتب عاش التجربة من اعماقها، رغم المبالغة في الدور الليبي وعدم احتساب المراحل السابقة، بشكل موضوعي يوفيها حقها، مثل مرحلة الحركة الطليعيىة لتحرير الصحراء وانتفاضة الزملة التاريخية وما ارفقها من وعي سياسي وزخم ثوري مهد الطرق امام الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
سعيد القشاط يستعرض الدور الليبي في دعم الثورة الصحراوية ومحاولة جعلها قاعدة للثورة في المنطقة ككل وبلورة الفكر الوحدوي العربي ومواجهة تخندق نظام ولد داداه مع الاستعمار ومصالح فرنسا في المنطقة وارتهانه لاملاءاتها، ما ضيع فرص الوحدة بين الصحراويين والموريتانيين وهي الفكرة التي عرضها عليه الولي مصطفى السيد سنة 1975، فالبرغم من الدعم الليبي لموريتانيا وفتح سفارة ومراكز ثقافية وادخالها الجامعة العربية والسير بها نحو الاتجاه العربي وتحرير عملتها من الفرنك الفرنسي بفتح مصرف ليبي لدعم الاوقية الموريتانية وتحرير اقتصادها من هيمنة الشركات الفرنسية بتمويل مشاريع اقتصادية، إلا ان تاثير فرنسا على نظام ولد داداه كان اقوى من عرى العروبة والاسلام التي تربطه بالصحراويين وبالرغبة الليبية في الوحدة وانتشال موريتانيا من قبضة الاستعمار وإملاءاته . فالنظام الموريتاني في تلك الحقبة كان حقيبة في يد فرنسا يتحرك في نطاق رغبتها وتوجيهاتها وهو ما عمق المأساة مع الشعب الصحراوي، ولا يخفي الكاتب صعوبة فهم المجتمع الموريتاني حيث خلص الى ان موريتانيا هي السهل الممتنع، بعدما عجزت ليبيا القذافي عن تصدير الثورة اليها، كما عجز نظام البعث العراقي عن تصدير الفكر البعثي الى نخب الشعب الموريتاني التي تتلون مع كل وافد لتظهر له القبول والاعجاب لكن في حقيقة الامر تتبنى ما كانت تؤمن به، ويضرب مثلا حول شخص كان يظهر رغبته بالمطبوعات التي يصدرها حزب البعث العراقي ويقلها على متن سيارته بدعوى توزيعها على خلايا بعثية في منطقة الجنوب الموريتاني ليكتشف فيما بعد ان مصيرها كان قطيع من الماعز يملكه ولا يجد له الغذا الكافي، ما اصبح مثار للسخرية والتهكم حيث كلما رأى بعض الموريتانيين شأة في الطريق يقولون هذه خلية بعثية.
ومن الصور الحزينة التي ينقلها الكاتب مشاهداته للوضع المزري الذي اصبح عليه الشعب الموريتاتي بعد الحرب مع الصحراويين ومدى البؤس والمجاعة التي بدت واضحة في العاصمة نواكشوط التي اصبحت تغص بالاكواخ والخيام والناس من كافة انحاء موريتانيا يتكدسون بلا عمل ولا غذاء وبملابس رثة ومتقطعة ومرعوبون من الحرب وقد كانوا قبل الحرب يملكون الثروات الحيوانية بالبادية، وينقل القشاط ان "اغلب الاسر فقدت معيلها اما قتل او في الحرب او جرح او فر خارج الحدود انها مأساة حرب لا ضرورة لها" وهكذا جنت على نفسها براقش حين لم يراع نظام ولد داداه ان ما يجمع الاشقاء اكثر مما يفرقهم، فهم يتقاسمون الدين والعروبة والمصير المشترك، وقد احس الصحراويون بمرارة دخول موريتانا في الحرب ضدهم وكما يقول الشاعر طرفة بن العبد:
وظلـم ذوي القربـى أشــدُّ مضـاضـة ... على المرء من وقع الحسام المهند
ويتطرق الكتاب الى الدور الليبي لاخراج موريتانيا من حرب الاشقاء التي دخلتها مع المغرب والحث على اللقاء بين الصحراويين والموريتانيين دون واسطة للتفاهم على القضايا الشائكة وفي مقدمتها انسحاب موريتانيا من الحرب والعدول عن اطماعها التوسعية واطلاق الاسرى بين الجانبين وهو ما ترجم عمليا بعد الانقلاب الذي قادته مجموعة الضباط "لجنة الانقاذ الوطني" في اتفاق السلام بين موريتانيا وجبهة البوليساريو
وخلال مقابلات القشاط مع القادة الموريتانيين ينقل عن رئيس الانقلاب العقيد ولد السالك تأكيده له "ان موريتانيا ليست محتاجة لزيادة الارض وان انسحابها من المنطقة سيتم حتما لكن نفضل ان يكون عن طريق هيئة الامم المتحدة حتى نربك المغرب ونطالب ايضا بقوات اممية تفصل بيننا وبين المغرب"... وقد صرح الرئيس الموريتاني بعد عودته من ليبيا ولقاء الرئيس الصحراوي هناك يوم 18 اكتوبر 76 ان السلام يشكل مسلكا ضروريا نحو عملية التصحيح الوطني الذي التزمنا به" لكن مسؤول صحراوي صرح لوكالة الانباء الجزائرية ان المفاوضات في باماكو التي عقدت بين يومي 17 ـ 18 اكتوبر76 بين الصحراويين والموريتانيين لم تفض الى اي نتيجة ايجابية.
كما ينقل الكاتب ان التخوف الموريتاني من الوحدة مع الصحراويين مرده الخوف ان تصبح موريتانيا طرفا في الحرب التي تريد ان تخرج منها واذا لم يخرج المغرب من الحرب ويأخذ الشعب الصحراوي استقلاله فحلم الوحدة سيبقى بعيد المنال.
كما يتحدث الكاتب عن تجربته مع بعض القيادات الصحراوية ودورها سلبا وايجابا في العلاقة مع السلطات الليبية، مع الانبهار بشخصية الشهيد الولي الفريدة وتاثيره العميق في كل القيادات التي التقاها وقدرته على الاقناع والاخذ بزمام المبادرة والتضحية في المقدمة ويقول انه بعد غياب الوالي صاروا يعملون على انهم دولة وانهم وزراء، وهو ما لا ينسجم وروح الثورة التي تقتضي التضحية وجعل تلك المناصب والمهام وسائل لبلوغ هدف التحرير وليست اهدافا في حد ذاتها.
وبخلاصة فإن الاسراب الجانحة رحلة تجوب جغرافيا المنطقة، وتستنطق ارهاصات نشأة الثورة في الساقية والوادي، بعدما اخذت بطاقة عبور الى الشمال الموريتاني انطلاقا من طرابلس بحثا عن تصدير الثورة الى بلاد مزقها الاستعمار وعبث بشعوبها واستنزف خيراتها، حيث كان المستعمر يحتل الصحراء الغربية منذ عشرات السنين في غفلة من العرب وتواطؤ من العجم، وتكالب الانظمة الرجعية التي تركها الاستعمار ليبقى متحكما في العباد والبلاد، ويرهن المنطقة برمتها لهيمنته الاستعمارية.
فكانت ليبيا استثناء من تلك الانظمة ويسجل لها التاريخ الموقف المشرف والسبق في نصرة الشعب الصحراوي وطليعته الثورية رغم بعد المسافات وصعوبة الاتصال وانعدام الطريق الامن لوصول المساعدات الضرورية، وذلك الموقف سيظل يذكره الشعب الصحراوي بكل فخر واعتزاز لليبيا معمر القذافي وكل الاحرار الذين قدموا الدعم المادي والمعنوي لثورة العشرين ماي التي رفعت التحدي لمواجهة حرب الابادة، وقهرت المستحيل في سبيل حرية وكرامة الشعب الصحراوي.
بقلم: حمة المهدي ـ 12 يوليو 2019