-->

الشجاعة و التهور


لكل زمان مميزاته التي تأتيه باطاله الذين يصنعون مجد شعوبهم بشجاعتهم و تفانيهم و توازن و ثبات في سبيل اهداف نبيلة خالدة خلود ارواحهم الطاهرة في سجل التاريخ و ذاكرة الشعوب فلا يأتي مجد إلا بدفع فاتورة من الابطال الشجعان ثمنا له. و لكن لابد من التدقيق في هذا الامر حتى لا تختلط المفاهيم و يعتقد البعض ان التهور نوع من الشجاعة، فأي بناء غالبا ما يقابله من يهدم، و تبعا لذلك فاينما كان شجاع متفان في بناء المجد، كان متهور اناني مخرب، يلتقي معه في الوسيلة و يفارقه في الغاية و النهاية لانه يواوازيه، و الخطوط المتوازية لا تلتقي، فالتأني والحلم والرفق والوقار ومجاهدة النفس هي دليل رجاحة العقل واتزان النفس بالنسبة لبطل ثوري شجاع يحافظ على مجد شعبه و يسعى لبنائه، و على النقيض من ذلك فإن التهور و الاندفاع و الطيش و الهوى و السفه و العجلة التي تدل على خفة العقل و جهالة النفس، بالجزع من أدنى ضرر، و محاولة استعمال القوة فيما لا ينبغي، مستقبح و مسترذل، و هي اوصاف للتهور، فكم من اندفاعة في غير موضعها نتج عنها حزناً طويلا،ً و كم من قول أو فعل متهور طائش أهلك صاحبه وحرمه النجاة و ألقي به في غياهب الظلمات، و من ذلك إساءة الظن بالناس و توزيع الاتهامات دون التثبت من الحقيقة، شيئ الذي تتولد عنه الإشاعات و الاتهام دون بينة في حق بريئ لا علاقة له بما ينسب له، و قد قال اللّٰه تعالي في ذلك: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ). 
فالشجاعة هي احدى القيم الإنسانية التي لا بُدّ أن يتحلى ابطال التاريخ و هي كثيرة و متعددة، وقد نادى بها الإسلام ودعا إليها لأنّها أساس بناء أي مجتمع سليم، و من هذه القيم الإنسانية: الرحمة و التسامح والعفو، ومنها أيضًا إغاثة الملهوف و نصرة المظلوم، و قول كلمة الحق، والصبر على الشدائد، و الشجاعة هي أساس هذه القيم، إذ إنها تدل على الشهامة والمروءة و عِظَم المكانة، و الشجاعة منها الإقدام، ومنها شجاعة النفس التي تكون بكظم الغيظ و عدم تنفيس الغضب، هي رباطة جأش وثبات، لا يكترث صاحبها بالموت و لا يهابه، غير انها تختلف في جوهرها عن التهور الميني على التسرع و العجلة و الهوى، و لو اشتبهت معه احيانا في تحدي الموت، فقد ورد عن ابن حزم في تعريفها أنها "هي التي يبذل فيها الإنسان الشجاع نفسه دفاعًا عن الدين و الحريم و عن الجار و المستجير المظلوم، و عن المال و العرض و في مختلف سبل الحق"، و قد قال بعض السلف: "الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة "، و قال بعضهم: "التأني مع الخيبة خير من التهور مع النجاح"، و قال" آخر: مظنة الجهل مطية الذنوب"، اما التهور فهو: أيَ تـصرف دون مَعرفة النتائج، و هو عَدم المبالاة في التصرف، و هو إتخاذ قراراتَ بلا دراسةَ لنتائجَها، مما يؤدي إلى نتائج غير محسوبة العواقب، اي أخذ قرارات بحكم العاطفة، فمثلا الافراط في السرعة عند قيادة السيارة، يؤدي إلى حادث و يعرض الاروأح للخطر الخ..، و استخدام الالفاظ دون ميزان، فالكلام خطير إن لم يقال في مكانه و يحسب بعناية.. ففي صحيح مسلم " أن المسيح عليه السلام رأى رجلاً يسرق فقال له: سرقت، فقال الرجل: والله ما سرقت، فقال المسيح: آمنت بالله وكذَّبت عيني". و صور التهور والاندفاع كثيرة و من شانها أن تستجلب المضرة والمفسدة و تفوِّت المصلحة، وفي الحديث: " إن الله عز وجل ليعطي على الرفق، ما لا يعطي على الخرق، و إذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، و ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلاحرموا". (رواه الطبراني). وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "التأني من الله و العجلة من الشيطان، و ما أحد اكثر معاذير من الله". رواه البويهقي وحسنه الالبان. فاحذروا التهور و الاندفاع فهو دليل على السفه و ضعف العقل، و يتسبب في كثرة الزلل و الوقوع في الخطأ، و صاحبه محروم من السيادة و الريادة، يجلب لنفسه الضرر، و يوقعها في مواضع الندم، حيث لا ينفع الندم، فلابد من وقفة تمهل و تثبت امام كل تصرف لنكون على بصيرة من أمرنا حتى تتضح مواضع الأقدام و تحمد العاقبة، فلا يصح بذل النفس الا لذك و التقصير عنه جُبن و خور، و بذلها في عَرَض الدنيا حمق سفاهة، و أحمق من ذلك من بذلها في منع الحق و الواجب و نشر المفاسد، و ليست قوة المتهور هي التي تمكنه من الظفر لأن التحكم في النفس هو هو الاجدر بالغلبة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ"، رواه البخاري، و قال ابن الأثير: "الصُّرَعَة: المُبَالِغُ في الصِّرَاع الذي لَا يُغْلَبُ، فنقَلَهُ إِلَى الَّذِي يَغْلِبُ نفْسَه عِنْدَ الغَضَب ويَقْهَرُهَا، فَإِنّه إِذَا مَلَكَها، كَانَ َقد قَهَرَ أَقْوَى أعْدَائِهِ وشَرَّ خُصُومه".
فما هو الفرق بين الشجاعة و التهور اذن؟ حتى يزول التشابه، فالشجاعة هي احدى القيم العربية الأصيلة التي يفتخر بها العرب، ويباهون بها بين الأمم، وقد تبين في ما ورد من تعريف الشجاعة أن فيها الإقدام والبعد عن الخوف و التردد، وتبذل في إحقاق الحق و نصرة المظلوم، و إغاثة الملهوف، و لكن لا بُدّ من التشديد على أن كل هذا يجب أن يكون بعيدًا عن العجلة و الانانية و الطيش و التسرع، فثمة فارق دقيق جدًا بين الشجاعة والتهور، فالشجاعة لا بد أن تكون بتعقل و حكمة وتروٍ، و أن تكون بعيدة عن المغامرة و الطيش و اللاعقلانية في معالجة الأمور، فالإنسان الشجاع يزن الأمور بعقله و يحسب النتائج جيدًا، ويعود بالنفع على غيره و على نفسه نتيجة ذلك، أمّا الإنسان المتهور فهو شخص لا يعقل ما يقوم به، سريع الغضب، يجرّ الضرر لنفسه و لغيره حتى و إن كانت نيته خلاف ذلك، وللتأكيد على ذلك، قال المتنبئ مبينًا مغزى الشجاعة و لبها: 
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ 
هُوَ أوّلٌ وَ هيَ المَحَلُّ الثّاني 
فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ 
بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ 
و هي خلق يتَوَلَّد عن الصَّبْر وَ حسن الظَّن، فَإِنَّهُ مَتى ظن الظفر، و ساعده الصَّبْر ثَبت. و بناءً على ما ورد يتبين أنّ الشجاعة مع التعقل ترفع مكانة صاحبها وتزيد من قوة شخصيته و رجاحة عقله، و العكس صحيح؛ أي ان البعد عن التعقل يقلل من مكانة صاحبه ويذهب بهيبته و وقاره وعزة نفسه، و ذاك هو التهور بعينه. و قد استوفى رسول اللّٰه صل اللّٰه عليه و سلم العدل و حسن الخلق و الشجاعة، فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَ أَشْجَعَ النَّاسِ، وَ لَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً، فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَبْرَأَ الخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَ هُوَ يَقُولُ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا".
اللهم جنب شعبنا كل وباء و بلاء و خذ بيده الى جادة الصواب و انصره على اعدائه.
2020/03/27
محمد فاضل محمد اسماعيل obrero

Contact Form

Name

Email *

Message *