-->

تغوّل السلطة على الدعوة ... ماذا يريد بن سلمان من علماء ودعاة المملكة؟


إسطنبول- إحسان الفقيه: “من أسباب رفع البلاء وكشف الوباء: العفو -ما أمكن- عن المخطئين من المسجونين”.
كما يبدو من هذا التقييد (ما أمكن)، فإنها دعوة أُطلقت على استحياء للعفو عن المسجونين، وتعود للداعية السعودي، صالح المغامسي، الذي لم يشفع له الدعاء للنظام  والحث على السمع والطاعة لقراراته في الاحتفاظ بمنصبه، على إثر هذه التغريدة.
فقد أُقيل المغامسي من إمامة مسجد قباء، أشهر مساجد المملكة بعد الحرمين الشريفين، وبدلا عنه، تم تعيين أحد الدعاة الاخرين الذين يحثون على التركيز على توقير أولي الأمر وتجنب النصيحة لهم في العلن.
المغامسي، الذي قدم اعتذارا على “تويتر” عن تلك التغريدة، لم يدع محفلا ولا مناسبة إلا وانحاز فيها لمحمد بن سلمان (ولي العهد)، فبرّأه من قتل الصحافي جمال خاشقجي (أكتوبر/ تشرين أول 2018) باستدعاء حادثة قتْل بنيت على اجتهاد خاطئ في الرعيل الأول، وطوعها للإسقاط على فريق الاغتيال.
وزعم أن أعضاء فريق اغتيال خاشقجي “تجاوزوا صلاحياتهم” دون علم الأمير، كما ذهب المغامسي في بعض لقاءاته، إلى أن دولاً وجماعات وصحفاً تواطأت على محاولة التقليل من شأن ولي العهد وهيبته، وأن الله نجّاه برباطة جأشه وبسبب أنه قد يكون ثمة شيء بينه وبين الله.
وإضافة إلى مدح بن سلمان والترويج لقراراته وسياساته، نصّب المغامسي نفسه منصة للهجوم على كل من اتخذهم ولي العهد السعودي خصوما، فانفلت وجاء هجومه على تركيا وقطر وجماعات الإسلام السياسي في كل مناسبة.
إلا أن كل ذلك لم يشفع له عند بن سلمان، فإن كان الأخير يسلك هذا المسلك القمعي مع الموالين له لِهفوة بسيطة عن المسار المرسوم لهم في التماهي الكامل، فكيف الحال مع غيرهم من الدعاة الذين لم يقدموا تلك القرابين لولي العهد؟
وهذا بدوره يقودنا إلى طرح سؤال مُلحّ: ماذا يريد بن سلمان من علماء ودعاة المملكة؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بشكل وافٍ دون استحضار البعد التاريخي للعلاقة بين السلطة والدعوة في المملكة
لقد كانت ثنائية السلطة والدعوة هي الملمح الأبرز في حكم آل سعود منذ النشأة الأولى، فكانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي تمثل حجر الأساس في مُلك آل سعود، فأعطتهم الدعوة وأخذت منهم، ولعل ابن سعود قد استفاد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مما قرره عالم الاجتماع ابن خلدون.
فقد رأى ابن خلدون أن “العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”، والسبب في ذلك هو “خُلق التوحش الذي يجعلهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، وللغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهَبَ خُلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم”، بحسب تعبير ابن خلدون.
واستمر آل سعود وآل الشيخ يمثلان هذا التزاوج بين السلطة والدعوة حتى في عهد الدولة السعودية الثالثة، التي أسسها عبد العزيز آل سعود، واستطاع الاستفادة من التيار الديني المتمثل في حركة “إخوان من أطاع الله” في توسيع رقعة نفوذه في الجزيرة وتوحيدها تحت إمارته.
كانت نتيجة هذه الثنائية اصطباغ المجتمع السعودي بالصبغة الدينية المحافظة، إذ غلب عليهم التأثر بمنهج ابن عبد الوهاب الإصلاحي، وظل هذا المنهج يمثل أصول كل الاتجاهات الدينية تقريبا في المملكة، سواء السلفية التقليدية أو تيار الصحوة أو حتى الإخوان والتبليغ، فلها الأصول ذاتها، مع اختلاف في أساليب وآليات الدعوة والفقه الحركي لكن العقيدة ظلت واحدة تتركز على التوحيد ونبذ الشرك وانواعه.
كانت الدعوة في السعودية بمثابة القوة الناعمة التي أثرت في الشعوب الإسلامية، حيث كان لعلماء السعودية ودعاتها منزلة كبيرة لدى تلك الشعوب، لأنهم في نظر الأمة علماء أرض الحرمين ومهبط الوحي، وكانت المحاضن العلمية تستوعب طلاب العلوم الشرعية من شتى البلدان.
كما لم يكن مِن بيتٍ في العالم الإسلامي إلا وتجد لديه كتابا مطبوعا أو شريطا مسجلا (محاضرات أو ترتيل للقرآن) لعالم أو مقرئ من المملكة، فكانت السعودية وعلماؤها قِبلة جميع المسلمين، فأسهم ذلك كله في تعزيز فكرة الريادة الدينية للسعودية في العالم الإسلامي.
كما استفاد آل سعود من الدعوة في تقرير طاعة ولي الأمر وعدم الخروج على أمره، واجتماع الناس عليه، إلى أن جاءت حرب الخليج لتغير مسار العلاقات بين آل سعود وعلماء السعودية ودعاتها.
عندها، أبدى بعض الدعاة وجهة نظر معارضة لعلماء المملكة الرسميين في جواز الاستعانة بغير المسلمين لتحرير الكويت (عام 1991) من الغزو العراقي، ولم يجد هؤلاء العلماء تكييفاً فقهياً صحيحاً للاستعانة بالأمريكان وحلفائهم في الدفاع عن الكويت، فعلى خلفية هذه المعارضة تم اعتقال عدد كبير من الدعاة غير الرسميين.
شهدت هذه الفترة مزيدا من اتساع الهوة بين السلطة والدعوة، بعد أن اتجهت السلطة للانفصال عن الدعوة، بتمكين التيار التغريبي من الآلة الإعلامية، بينما تركت للإسلاميين مجال التعليم، الذي نازعهم التغريبيون في مناهجه، وفق متطلبات السياسة الأمريكية الرامية إلى تغيير المناهج السعودية بما يناسب العولمة.
ودأب آل سعود على اعتقال كل داعية يُظهر قدرا من المعارضة لسياسات النظام وتوجهاته وممارساته، ومنهم الداعية خالد الراشد، الذي طالب بإغلاق سفارة الدنمارك، احتجاجاً على الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ما أدى إلى محاكمته عام 2005، وصدور حكم بسجنه 15 عاما.
وشهد عهد الملك سلمان وابنه استمرارا لهذه السياسات ضد أي داعية يتحدث بما لا يريده النظام، ومن أبرزهم الداعية المعروف عبد العزيز الطريفي، الذي كان من أسباب اعتقاله، أنه أبرأ ذمته إلى الله حين طلبت منه زوجة أحد المعتقلين في مداخلة هاتفية مع أحد البرامج، أن ينصح أهل الحل والعقد في المملكة، وأن يبين حكم الاعتقالات، فبذل الطريفي نصيحته على الملأ إبراءً للذمة، وكان ذلك عام 2016 في الوقت الذي كان بن سلمان يتولى منصب ولي ولي العهد، ويخطط للإطاحة بولي العهد، محمد بن نايف.
“سوف نُدمرهم اليوم، وفورا”، بذلك بدأ بن سلمان فترة ولاية العهد، حيث توعد تيار الصحوة، الذي خرج من رحم فكر الإخوان، لكنه يختلف عنهم، وانتشر بقوة في المملكة منذ نهاية السبعينيات (من القرن الماضي) حيث كان أكثر تعاطيا مع الواقع السياسي من التيار السلفي التقليدي.
وحمّل بن سلمان تيار الصحوة مسؤولية التطرف، رغم أن العديد من رموز هذا التيار انسحبوا من الأطر الحزبية إلى الفضاء العام، وأصبح عملهم يدور في فلك بناء الإنسان المسلم بعيدا عن المعارك السياسية والقضايا الفكرية الشائكة.
على إثر هذا التهديد، تم الزجّ بدعاة الصحوة في السجون، ومن أبرزهم الدكتور سلمان العودة، الذي اعتقل على خلفية تغريدة تمنّى فيها التئام الشمل ووحدة الكلمة، وذلك إبان الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر على دولة قطر (بداية من يونيو/ حزيران 2017).
كما تم اعتقال العديد من الدعاة البارزين من دون أمر قضائي في ما يشبه الاختطاف، منهم: سفر الحوالي، وعوض القرني، وعلي العمري، ومحمد موسى الشريف، وأحمد الصويان، وغيرهم العشرات.
لقد بدا أن ولي العهد (الحاكم الفعلي) يرغب بالقضاء على كل من يحمل ولو بذورا للأفكار الثورية الرافضة لتقديس ولي الأمر والتماهي المطلق معه، وملاحقة وتطويق كل صاحب فكر يؤدي إلى تداول السلطة وإعادتها إلى مبدأ الشورى.
وإضافة إلى ذلك فإن بن سلمان يأخذ بالبلاد إلى أحضان العولمة، بالسير تحت المظلة الأمريكية، التي لها مخاوفها من التيارات الأصولية، ويظهر ذلك في تقارير المراكز البحثية التي تخدم صانع القرار الأمريكي، مثل مؤسسة راند ونيكسون وكارنيغي وغيرها.
وأفصحت تلك المراكز عن مخاوف أمريكية من الاتجاه الديني السعودي أو ما يعرف بالوهابية، ومن ذلك تقرير راند بعنوان “إسلام حضاري ديموقراطي، شركاء وموارد واستراتيجيات”، والذي يصف الوهابية السعودية بأنها اتجاه “لا يتماشى بشكل عام مع قيم المجتمع المدني والرؤية الغربية للحضارة والنظام السياسي والمجتمع”.
وظهر ذلك التوجه لبن سلمان في قمة الرياض الشهيرة، التي خرج منها (الرئيس الأمريكي دونالد) ترامب بـ400 مليار دولار، حيث أطلق على إثرها “المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف”، الذي أُطلق عليه “اعتدال”، وتبعه اعتقال العديد من الدعاة.
كما تم تحجيم وتقزيم صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى غدت في عهد بن سلمان أثراً بعد عين، وذلك بعد أن كانت لها صلاحيات واسعة لإقرار ومراقبة تطبيق تعاليم الإسلام في الشارع السعودي.
وبناء على ما سبق، نستطيع القول إن ولي العهد السعودي لا يرغب بوجود العلماء والدعاة إلا الشرائح التالية:
أولًا: العلماء الرسميون المنتمون للمؤسسة الدينية الرسمية، وعلى وجه الدقة، الذين لديهم الاستعدادات التامة لتبرير ومباركة كل سياسات النظام بلا أدنى حد من المعارضة أو المخالفة، وكذلك حمْل الناس على قبول هذه السياسات وشرعنتها، ومنهم الشيخ عبد الرحمن السديس، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وإمام الحرم المكي، والذي يصف بن سلمان بالمحدث الملهم، ويصف حليفته الولايات المتحدة براعية السلام.
ثانيًا: تيار الدعوي المدافع عن النظام وهو تيار غير رسمي نشأ إبان حرب الخليج كرد فعل على معارضة تيار الصحوة للنظام في الاستعانة بالأمريكان وحلفائهم، وهو تيار يضفي القدسية على الحاكم ويجرّم حتى نصحه في العلن ويعتبره من الخروج عليه، ويحترف النقد والتجريح لكل الدعاة والعلماء من خارج التيار.
ثالثًا: الدعاة الذين انسلخوا من كل أفكارهم القديمة وتبرأوا منها وأصبحوا يُروّجون للنظام ويتوافقون معه في كل سياساته، أمثال الشيخ عائض القرني، الذي تبرأ، مؤخرا من تيار الصحوة، وجعل من نفسه منصة للهجوم على خصوم بن سلمان، وهو يُعزز فكرة أن ولي أمره هو قائد العالم الإسلامي.
ولكنه (بن سلمان) يقبل وجود هذه الشرائح ما لم تُبد أي معارضة أو مخالفة، ومن يحِد منهم عن المسار المرسوم، فعلى الأقل سيكون مصيره كمصير الداعية صالح المغامسي.
(الأناضول)

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *