-->

رباط عبد الله بن ياسين والمنارة التي شع نورها شمال وغرب افريقيا


كان يحيى بن إبراهيم الجدالي حريصا على نشر تعاليم الإسلام في المجتمع الصنهاجي الصحراوي الذي لم يحظ بالرعاية الدينية الكافية في عهد الفاتحين الأولين وظل بعيدا عن حواضر الإسلام، وهو ما جعله يطلب من يعينه على تبصير قومه وانقاذهم من اوحال الجهل والضلال، فكان الاختيار على العالم الجليل عبد الله بن ياسين الذي واجه عناد قبائل صنهاجة وإصرارهم على ماهم عليه من البعد عن شريعة الاسلام، فرحل وفي نفسه من الاسى والحزن على حالهم الشيء الكثير ليبدأ مرحلة ثانية من الدعوة الاسلامية التي قادته الى غرب افريقيا. 
ولما له من مكانة خاصة لدى يحيى بن إبراهيم الجدالي، فقد آثر الرحيل معه مضحيا بمكانته الاجتماعية في قومه، وقال له: "هل لك في رأي أشير به عليك؟ إن ها هنا في بلادنا جزيرة في البحر، إذا انحسر البحر دخلنا إليها على أقدامنا، وإذا امتلأ دخلناها في الزوارق، وفيها الحلال المحض الذي لاشك فيه من أشجار البرية، و صيد البر وأصناف الطير والوحوش والحوت، فندخل إليها فنعيش فيها بالحلال، ونعبد الله تعالى حتى نموت..." فقال له عبد الله بن ياسين: "هذا أحسن، فهلم بنا ندخلها على اسم الله، فدخلها ومعهما نفر من قبيلة جدالة الصنهاجية، وجعلوا منها رابطة، اختلف المؤرخون في تحديد مكان هذا الرباط، و يذكر الأستاذ إبراهيم حركات في كتابه " المغرب عبر التاريخ" (الجزء الأول) أن "المؤرخين اختلفوا في تحديد مكان هذا الرباط، والغالب أنه كان على مصب نهر السينغال حيث توجد بعرضه جزر صغرى أقاموا رباطهم بإحداها". 
ويصف ابن خلدون هذه الجزيرة بقوله: «يحيط بها النيل (اي النهر)، ضَحْضَاحًا[1] في الصيف، يخاض بالأقدام، وغمرًا[2] في الشتاء يُعْبَر بالزوارق»[3]


وصل ابن ياسين بعد رحلة شاقة ومتعبة عبر المسالك الوعرة للصحراء ونصب خيمته المتواضعة التي ساعده في تشييدها النفر الذين رافقوه وعلى رأسهم الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، ومنها بدأت تتحقق بشارات النصر التي وعدها الله للمتقين ودعاته المخلصين، حتى إذا استيأسوا وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصر الله، قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)). 
كان الرباط الذي أقامه ابن ياسين بنهر السنغال يقع قريبًا من مملكة غانا، متعمدًا الاقتراب لتدريب جماعته في بيئة جهادية، والعيش في الرباط في حالة استنفار وحرب مستمرة، لكنه غير بعيد عن ديار المُلَثَّمين، كي يستند إليهم في حالات الخطر ويحتمي بهم. 
ولما انتشر خبره بين الناس اصبح رباطه محجا للراغبين في تحصيل العلم والتفقه في الدين، حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من صنهاجة، فسماهم المرابطين، وبدأ تحكيم الشريعة الإسلامية فيهم، وظهرت علامات النبوغ والفهم والإدراك فبرز منهم علماء وفقهاء، ما زاد من اهتمام بن ياسين بهم وجعلهم يلتفون حوله ويسعادونه على تربية الوافدين الجدد على الرباط وتعليمهم وتأهيلهم لمرحلة نشر العلم والجهاد، حيث كانت هذه الفترة بمثابة مرحلة التكوين الديني والتربوي والعسكري في منطقة موريطانيا والصحراء الغربية وشمال بلاد السنغال. 
فتحول هذا الرباط إلى منارة للعلم والعمل في تلك الصحاري، يستقطب أبناء قبائل صنهاجة، ويتميز بالتنظيم المحكم، الذي ساعد في تشكيل مجلس للشورى، وجماعة للحلِّ والعقد وكان أهل الرِّبَاط في قمة الصفاء الروحي, ويعيشون حياة مثالية يتعاونون فيما بينهم على قوتهم اليومي معتمدين على ما توفِّرُه الطبيعة من صيد وفير. 
وقد ساهم الرباط في استتباب الأمن والاستقرار في تلك المنطقة، ما شجع حركة القوافل التجارية وازدهارها. 
وبعد مرور اربع سنوات على رباط ابن ياسين وازدياد عدد الوافدين الراغبين في العلم والمعرفة، اجتمع حوله عدد كبير من المؤمنين الموحدين، والعلماء المؤهلين، فبدأ بإرسال هؤلاء الرجال إلى قبائلهم ودعوتهم الى تحكيم شريعة الاسلام، لكن الاستجابة لم تكن كبيرة من أقوامهم، ما مهد لمرحلة الجهاد التي بدأت تحت راية دولة المرابطين. 
يصف ابن أبي زرع هذه المرحلة من حياة المرابطين بقوله: «فدخلاها (الجزيرة) ودخل معهما سبعة نفر من كدالة، فابتنيا بها رابطة، وأقام بها مع أصحابه يعبدون الله تعالى مدة من ثلاثة أشهر، فتسامع الناس بأخبارهم، وأنهم يطلبون الجنة والنجاة من النار، فكثر الوارد عليهم والتوابون، فأخذ عبد الله بن ياسين يُقرئهم القرآن ويستميلهم إلى الآخرة، ويُرَغِّبهم في ثواب الله تعالى، ويُحَذِّرهم أليم عذابه، حتى تمكَّن حُبُّه منهم في قلوبهم، فلم تمر عليهم أيام حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته، وأخذ هو يُعَلِّمهم الكتاب والسنة والوضوء والصلاة والزكاة، وما فرض الله عليهم من ذلك، فلما تفقهوا في ذلك وكثروا قام فيهم خطيبًا، فوعظهم وشَوَّقهم إلى الجنة، وخَوَّفهم من النار، وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرهم بما في ذلك من ثواب الله تعالى وعظيم الأجر، ثم دعاهم إلى جهاد مَنْ خالفهم من قبائل صنهاجة، وقال لهم: يا معشر المرابطين؛ إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم، وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتجاهدوا في سبيل الله حقَّ جهاده. فقالوا: أيها الشيخ المبارك؛ مُرْنَا بما شئت تجدنا سامعين مطيعين، ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا. فقال لهم: اخرجوا على بركة الله، وأنذروا قومكم، وخَوِّفُوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته، فإن تابوا ورجعوا إلى الحقِّ وأقلعوا عمَّا هم عليه فخلوا سبيلهم، وإن أَبَوْا من ذلك وتمادوا في غيهم ولجُّوا في طغيانهم، استعنَّا بالله تعالى عليهم، وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين. فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته، فوعظهم وأنذرهم ودعاهم إلى الإقلاع عمَّا هم بسبيله، فلم يكن منهم من يقبل ولا يرجع، فخرج إليهم عبد الله بن ياسين، فجمع أشياخ القبائل ورؤساءهم وقرأ عليهم حجة الله، ودعاهم إلى التوبة، وخَوَّفهم عقاب الله، فأقام يُحَذِّرهم سبعة أيام وهم في كل ذلك لا يلتفتون إلى قوله، ولا يزدادون إلا فسادًا، فلمَّا يئس منهم قال لأصحابه: قد أبلغنا الحجة وأنذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله تعالى"[4]. 
كان ابن ياسين يدرك جيدا أنه سيدخل في مواجهة حاسمة مع قبائل منظمة وأن أي خطأ أو تهاون في إعداد العدة سينعكس سلبا على قوة الدعوة وصفائها، وهذا يستلزم الاستعداد البدني كما يستلزم الاستعداد الإيماني، ففي ساحة المواجهة لا يثبت ولا ينتصر إلا من كان حسب تعبير ابن خلدون الأعرق في البداوة والأكثر توحشا[5] وبهذا يكون قد تميز رباط عبد الله بن ياسين عن بقية الرباطات القائمة في عصره، بدقة التنظيم والجمع بين وظائف الدعوة والجهاد وإعتماد مبدأ الشورى إذ لا يعزم على أمر ذي بال إلا ويشاور فيه اصحابه. 
ومن هنا انطلقت دولة المرابطين التي لعبت دورا هاما في التاريخ الاسلامي وسطع نورها من قلب الصحراء وبلغ مداها ما وراء البحر شمالا إلى نواحي النيجر جنوبا بعدما بسطت سيطرتها ونفوذها على جميع قبائل منطقة الصحراء الغربية وموريتانيا تحت راية الاسلام وانطلقت منها إلى حكم المغرب والأندلس. 
إعداد : حمة المهدي
ـــــــــــــــــــــــــ
بعض المراجع
[1] ـ الماء القليل وقريب القعر يكون في الغدير وغيره 
[2] ـ الماء الكثير الذي يغمر الأماكن ويغطيها 
[3] ـ ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/183 
[4]ـ ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص125، وما بعدها، والسلاوي: الاستقصا 2/8. 
[5] - ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1993، ص 110

Contact Form

Name

Email *

Message *