رحلة الامام عبد الله بن ياسين الدعوية الى الصحراء الغربية ونشر المذهب المالكي
لا شك ان الاسلام وصل الى الصحراء الغربية قبل عبد الله بن ياسين وتشير مراجع التاريخ الاسلامي الى ان الإسلام ظهر فيها أول مرة عام 116 هـ - 734 م، بعد غزوة حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع لمنطقة المغرب والصحراء، في فترة ولاية عبيد الله بن الحبحاب للقيروان، فاعتنق الملثمون الصنهاجيون الإسلام لكن التزام الناس به ظل متفاوتا واقتصر على النطق بالشهادتين دون بقية الاركان لدى الكثير من السكان ويصف القاضي عياض -رحمه الله- هذا الامر بقوله: كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما.[1]
وكانت زيارة الأمير يحي بن إبراهيم الكدالي إلى القيروان أثناء عودته من الحجّ سنة 427هـ الأساس في بداية وصول المذهب المالكي الى الصحراء الغربية حين حضر مجلس الفقيه أبي عمران الفاسي إمام المالكية في عصره الذي سأله عن قبيلته ووطنه فذكر له أنّه من الصّحراء من قبيلة كدالة إحدى قبائل صنهاجة، فقال له الفقيه: ما مذهبكم؟ فقال له: “ما لنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب لأنّنا في الصّحراء منقطعين لا يصل إلينا إلاّ بعض التّجار الجهّال حرفتهم الاشتغال بالبيع والشراء ولا علم عندهم وفينا قوم على تعلّم العلم يحرصون وعلى التفقه في الدّين من الله يرغبون فعسى ان تنظر في من يتوجه معي إلى بلادنا ليعلّمنا ديننا”. فقال له الفقيه: “سوف أجتهد لك في ذلك إن شاء الله تعالى”. فعرض الفقيه الأمر على الطّلبة هنالك فلم يجد أحدا يوافقه على ذلك لأجل مشقة السفر البعيد والانقطاع في الصّحاري، فدلّ الفقيه على رجل من فقهاء المغرب الأقصى اسمه وجّاج بن زلّو اللّمطي وأعطاه كتابا يوصله إليه يؤكّد في الاجتهاد في ذلك عليه، فلما وصل يحي بن إبراهيم إلى المغرب قدم الى مجلس ابي عمران الفاسي، فلفتت هيئة الزائر الغريب انتباهه وسمعت جلبة بين صفوف طلبته؟ حيث كان في حلة الأمراء، متلثم، أسمر اللون، يبدو عليه أثر السفر، فبادر الشيخ بالتحية وسلم إليه كتاب أبي عمران الفاسي، وكان مضمون الكتاب: “سلام عليك، أما بعد: إذا وصلك حامل كتابي هذا وهو يحيى بن إبراهيم الكدالي فابعث معه إلى بلده من تتق بدينه وورعه، وكثرة علمه وسياسته، ليعلمهم القرآن، وشرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ولك وله الثواب والأجر العظيم: “والله لا يضيع (أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30]، والسلام”.[2]
فرحّب به الشيخ وأكرمه وأختار له عبد الله بن ياسين الذي كان من حُذَّاق الطلبة الأذكياء النبهاء النبلاء، من أهل الدين والفضل، والتقى والفقه، والأدب والسياسة، مشاركًا في العلوم[3]، شديد الورع في المطعم والمشرب، قال عنه الذهبي: «كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير»[4].
وينسب أغلب المؤرخين عبد الله بن ياسين إلى جزولة، من قبيلة صنهاجة، وقد سافر لطلب العلم ببلاد الأندلس في عهد ملوك الطوائف، وأقام بها سبع سنين وقيل تسع سنين، حصل خلالها علوما كثيرة، كما درس على يد وجاج بن زلو اللمطي، وهو فقيه تتلمذ على أعلام المذهب المالكي في ذلك الزمان من امثال الإمام أبو عمران الفاسي والإمام ابن أبي زيد القيرواني، وغيرهم من علماء الاندلس وقرطبة.
بدات رحلة عبد الله بن ياسين مع الدعوة الى الله ونشر المذهب المالكي في الصحراء الغربية، فأنطلق صحبة شيخ قبيلة جدالة، يحيى بن إبراهيم، صوب الصحراء، حيث الأرض المجدِبة، والحر الشديد، وحين مكث فيها، هاله أمر ابتعاد غالبية الناس عن الدين وإسرافهم في ارتكاب المنكرات، ومظاهر الجاهلية، فبدأ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر ويصحح لهم العقيدة، ويحذرهم من الوثنية والشرك ويغرس التوحيد ويشرح لهم بقية احكام الدين، ولقيت هذه الدعوة المباركة استجابة من قبل الناس في بداية الامر، لكن المهمة لم تكن يسيرة، في ظل انتشار الجهل والتعصب الاعمى، جاء في كتاب "الأنيس المطرب بروض القرطاس" لابن أبي زرع، أنه بعد انتداب واجاج بن زلو اللمطي تلميذه عبد الله بن ياسين الجزولي لمرافقة يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى الصحراء لتعليم الصنهاجيين أمور الدين، دخل الفقيه مع الأمير يحيى إلى جدالة واستقبل استقبالا كبيرا من طرف قبائل كدالة، ولمتونة الصنهاجية وأكرموه وعظموه لما ذكر لهم يحيى عنه من العلم والفضل.
واصل عبد الله بن ياسين متنقلا بين القبائل واحدة تلو واحدة، يعلمهم القرآن، ويشرح لهم السنة، ويعلمهم الحلال والحرام، لكن طريق دعوته لم يكن مفروشاً بالزهور والورود ولا خالياً من المكذبين والمعاندين، إذ وقف بعض زعماء القبائل لهذه الدعوة بالمرصاد وبدأوا يحرضون الناس عليها ولقي عبد الله بن ياسين ألواناً من الأذى والاضطهاد، لكنه لم يقنط وظل يدعوهم ويرشدهم، رغم ما لحقه من الاذى والوعيد الشديد مستجيبا لقوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فصلت/33 ، وقوله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران/104 .
راغباً في الأجر والثواب الذي قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) متفق عليه وقوله : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) .
فلم يمل الشيخ عبد اللَّه ابن ياسين ولم يكل من دعوتهم إلى عبادة اللَّه وحده وترك الشرك به، فطلب الناس منه أن يتركهم وشأنهم وأن يعود من حيث أتى، ومع رفضه المستمر ترك ادعوتهم ونصحهم، حرق الناس بيته، وخيروا شيخ القبيلة يحي بن إبراهيم الجُدالي بين طرده خارج القبيلة أو قتله، فأصبحت حياة الشيخ عبد اللَّه بن ياسين مهددة وبات مكرها على الرحيل بعدما جفاه القوه ونفروا منه وهجروه بعد اربع سنوات من مجاهدة النفس على العطاء والنصح والارشاد والتحمل والصبر على الاذى في سبيل الدعوة الى الله تعالى.
فلمّا يئس منهم لما رآى من إعراضهم وعنادهم قرر الرحيل إلى بلاد اخرى، يبلغ فيها ما اتاه الله من علم وفقه، حفاظا على سلامته، فرحل بمَشُورة يحيى بن إبراهيم يشق طريقه الى إلى رِباط في عمق الغرب الافريقي اين كان يخبئ له القدر بشائر التمكين التي حملت معها انطلاق دولة المرابطين وجمع القبائل الصنهاجية المستقرة بالصحراء الغربية حوله واصبح الزعيم الروحي للمنطقة بلا منازع .... يتبع
إعداد : حمة المهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض المراجع:
[1] [3] القاضي عياض: ترتيب المدارك، 2/64.
[2] الفقيه المجاهد عبد الله بن ياسين: مجدد الإسلام في أفريقيا، أ شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي
[3] انظر: ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص123، والسلاوي: الاستقصا، 2/7.
[4] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 31/80.