-->

القائد المهمش، ورقة النرد الاخيرة للحركة... سيرة رجل كبير في زمن تنطع الصغار...!


هل كان خارقا؟ هل كان كاملا بالا كبوات؟ هل كان الخير كله وخصومه الشر كله؟ أبدا.. ففي تعقيدات دروب السياسة، كل الأحكام القطعية على الأشخاص تكون بالضرورة تعسفية إلا ما كان منها متعلقا بقياس نسبة الأخلاق في ممارسة السياسة. 
فمن يكون خارج هذه الدائرة يسقط مباشرة في مزبلة التاريخ.


لم يكن القائد العسكري الميداني ملكا، ولكنه استطاع أن ينحت له صورة الرجل الاستثنائي، فلماذا يستطيع بعض الأشخاص فقط أن يتسللوا إلى دائرة الاستثناء؟ وما الذي يجعل اسما معينا يرتفع في المخيال الشعبي إلى درجة السمو، مع العلم أن هذا المخيال لا يباع ولا يشترى؟ وهل للتاريخ أبواب كبيرة طريقها معروفة ويمكن أن يتنافس عليها المتنافسون؟ وهل المجد محطة تتويج عمالقة أم فاكهة في قمة غامضة المسارات ومتشابكة المنعرجات كميتافيزيقا الروح؟
من السخرية الناطقة أن الذين يبلغون العلا يطرحون هذه الأسئلة الملغزة، بل إن الذين ينشغلون بهذه ال استفهامات والخرائط لا يصلون أبدا إلى حيث ينفصل المرء عن قبيلته ليصبح متماثل للجميع، وملهما وكبيرا بما يعطي لا بما يملك.
لقد وصل الرجل إلى هذه المكانة التي يمكن لكل واحد أن ينسبها حسب حساسيته وموقعه، وقربه أو بعده، واطالعه على التاريخ وخصوصا غير المكتوب منه، إلا أن كل هذا التسيب لا بد له من حد أدنى ليحصل الرجل علىّ اعتراف شعبه، وهذا الإعتراف هو بيت القصيد... 
لم يكن القائد في بداية الثورة هو الأول في صف القادة الكبار، بحكم من سبقوه كالقيادات الميدانية التي كانت في الصفوف الامامية للحرب، ولكنه كان معهم، وجاء بمشروعية الكفاح المسلح ضد المستعمر أثناء الحرب، وانخرط في الصراع مع الانتهازيين والمتمصلحين، من أجل تطهير مؤسسة جيش التحرير بعد وقف اطلاق النار، إلا أن قدر المشروع الوطني لم يكن رحيما، بحيث أن التطاحنات بين المقاتلين الوطنيين الذين قاتلوا المحتل المغربي في ميادين القتال المختلفة والقيادات العسكرية الجدد بعد وقف اطلاق النار،
وبين العلبة السوداء للنظام ذات الطابع المدني وكل من يهدد مصالحها مهما كان رصيده وموقعه، وبين تصدعات المؤسسة العسكرية نفسها، والتي كانت برأسين، واحد عسكري يحاول التغيير من
داخل المؤسسات وان يقطع دابر الفساد قبل الذهاب في اي خطوة، وواحد مدني يحاول المحافظة على نظام الفساد والامتيازات للقيادات الجديدة والتي تتشارك في كونها مجموعة من المقاتلين الشجعان الابطال، الذين لم يطلق واحد منهم رصاصة واحدة!!! قبل وقف اطلاق النار 1991، ضد المحتل الغاشم.. طموحات هذه المجموعة المتصارعة على السلطة، كلفتنا 29 سنة من لالم والتضحيات وفرص الإصلاح الضائعة والاهم تقريب النصر وضحر الاحتلال المغربي الجاثم على ارضنا... 
لا أحد يجادل في أن القائد كان مقاتلة لا يشق لها غبار في يوم الزحف، وشجاع شهم، أتصف الرجل بعقلية المسير العسكري الصارم، لا يجامل في التيسير، ولكن أيضا لا يحسد الصادقين المخلصين، بل ثائرا نادرا... 
حينما تغدر السياسة بالثوار... 
في ليلة دهما احيكت فيها عملية إغتيال اخر المحترمين الذين قد يحملون الأمل بفجر جديد بعيدا عن قاعدة الحكم المألوف، قدر الرجل ان تجتمع فيه كل صفات قائد المرحلة فهو المقاتل، والشخصية الكارزماتية التي تتطلبها المرحلة وله قاعدة شعبية كبيرة، ولكن كل تلك الصفات جعلت منه العدو الاول لكل الطامحين للسلطة، واجمعت كل الاقطاب المتناحرة فيما بينها والطامحة للسلطة لطحنه وإنهاء اسم أسطورة القائد المقاتل... على طريقة إنهاء احد أبرز القادة الميدانيين للحرب (القطاع الجنوبي) وابعاده من المشهد مهما كلف ذلك. 
الفرق بين ما حصل في الماضي وما يحصل اليوم، هو أن القاعدة الجماهرية أصبحت اكثر وعيا في زمن تجدد كل شي، الا عقلية وتفكير من يرتب خططه في غرف مظلمة وكأنه الوحيد المتحكم في مجري الأشياء!، كما كان الفعل منذ اكثر من اربعين سنة... 
تفطن الرجل لما يدبر له من مكائد، منذ التحضير للمؤتمر الاخير للجبهة، أين اختار متابعة الأحداث من برج المراقبة بالرغم من كونه يتوفر على كل شروط قلب الموازين في المؤتمر ولعب دور الفاعل الابرز، لكن حسه الوطني وترفعه عن خبث السياسيين الذين اختصروا مسارهم النضالي فيما يحيكونه من مؤامرات ودسائس، ليس ضد المحتل المغربي، وإنما ضد كل من يشم فيه رائحة الاخلاص والصدق والوفاء للمصلحة الوطنية. 
إلا أن الخطأ الجسيم الذي يمكن أن يسقط فيه المقلب لصفحات الماضي، هو أن يقرأ التاريخ خارج سياقاته... وأنا أعتقد بكل سذاجة أن المركب المصالحي الانتهازي هو الذي أجج نار العداوة بين الاقطاب، وأفشل كل محاولات العمل الاصلاحي، خصوصا بعد إفشال مخطط التسوية الأممي من طرف الاحتلال المغربي، ودخول الحركة في صراع الطواحين بين القيادات العسكرية والمدنية، وحلفاء ليسوا كالحلفاء، صراع داخل المكتب الدائم للأمانة الوطنية، حيث انقلب عليه المقاتلون الجدد قبل الديناصورات. ودخل في مغامرة وصفها هو نفسه بالخطيرة في احد الاجتماعات الرسمية، وفي تناوب توافقي كان القائد الأعلى للقوات المسلحة يمسك بكل تالبيبه، وانتهى بنوع من الخذلان بالرغم من موقفه الشجاع والصارم إلى جانبه في دعمه كمرشح وحيد في المؤتمر الاستثنائي...
لم يتحقق التناقم المرجوا كما كان يتصور الرجل او كما تمنى، ليتاكد له ذلك بعد المؤتمر الاخير، أين انتصر الوشاة بين الرجلين لتخسر الحركة احد ابطالها الذي انتصر قائدها لخصومه الانتهازيين بدلا من إنصافه في معركة كسر العظام، ليختار الرجل مغادر الحياة السياسية في منفاه المؤقت، ليمهله القدر فرصة ليرى ما سيجري للحركة مما يشيب له الولدان، وكيف أصبحت الأرض تحفل بالساقطين في قعر بال قرار، وبالانتهازيين في جشع ليس بعده إلا الدمار. 
ولم يبق من الرجال إلا القليلون المنزوون الباكون بدموع صامتة على واحد من آخر الثوار المحترمين.
بقلم: مواطن صحراوي
ملاحظة: في النص اقتباسات من رواية الكاتب الشهير جورج أورويل

Contact Form

Name

Email *

Message *