الولايات المتحدة الأمريكية وبوادر الإنهيار !
في ظل ما يشهده العالم اليوم من عدم الإستقرار ، وظهور أزمات سياسية مختلفة ومعضلات إقتصادية جمة وظواهر أمنية وإجتماعية مخيفة ، وظروف صحية قاهرة ، تتعدد الأسباب والتنبؤات حول النظام العالمي المتوقع مستقبلا ، وما سيتمخض عنه الوضع الحالي من تغيرات تمليها بعض المعطيات على الأرض .
إن الظروف السالفة الذكر لا تبعث على الإرتياح بتاتا ، وقد لا تحمل للولايات المتحدة الأمريكية خصوصا خبرا سارا في ما هو قادم من الزمن ، كونها ومنذ عقود هي من يعبث بأمن وإستقرار العالم ، وبمبادئ وقيم الإنسان ، وهذا ما قد يجعلها تدفع الثمن غاليا ، بحيث تشير الدلائل إلى تصدع صورتها النمطية طبقا لجملة من الإعتبارات الواقعية ، التي سيكون لها أثر بارز في تحديد وبلورة معالم النظام العالمي الجديد ، فبعد حقبة مريرة من الهيمنة والظلم السافر والتجاوزات الممنهجة ، والتقويض المفضوح للشرعية الدولية وإحتكارها بطرق تعسفية ، جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية هي الآمر الناهي المهيمن على كل العالم ظلما وجورا ، أصبحت أعداد لا يستهان بها من الدول المتضررة من سياساتها العدوانية ، تنظر لها بنظرة الثأر والخلاص الملح لضمان الأمن والإستقرار في العالم ، وبناء على ذلك ستتغير دون شك الإصطفافات التقليدية المعروفة بولائها لأمريكا ، خاصة إذا ما وجدت معتصما كالصين ومحورها ، وهو ما قد يسبب شبه عزلة تدريجية للولايات المتحدة الأمريكية ، ويجعلها يوما ما تصفق بيد واحدة على غير العادة ، ولعل ما كشفت عنه جائحة كورونا من أنانية بين حلفائها من دول الإتحاد الأوروبي ، إلا دليلا على بداية التصدع بين دول هذا الإتحاد ، لا سيما بعد خروج بريطانيا منه ، والتي قد تتبعها ألمانيا وربما فرنسا بالنظر إلى الضعف الحاصل في إقتصادات بقية الدول الأخرى .
أن سلوك الولايات المتحدة الأمريكية المجافي لتطلعات المنتظم الدولي والمخالف للأسس وللأهداف التي أنشأت من أجلها عصبة الأمم والأمم المتحدة لاحقا ، أضر بأسس وقيم التعايش بين الشعوب ، ولذلك أثبتت هاتان المنظمتان الأمميتان فشلهما تباعا في فرض السلم والأمن والعدالة في العالم ، وكانت النتيجة أن حلت الأولى بعد عجزها عن مواجهة المشاكل التي تعاني منها دول العالم ، بينما أضحت الثانية البديلة مع مرور الوقت ، أداة طيعة لخدمة الظلم والطغيان وتكريس قانون الغاب ، الذي لا يرحم الضعفاء ولا مكان فيه للمبادئ ولا للقيم الإنسانية السمحة ، والذي بلور بما لا يدع مجالا للشك سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ، ونواياها السيئة التي قد تكون في يوم من الايام بمثابة السحر الذي سينقلب على الساحر ، وكل المعطيات على الأرض توحي بذلك ، حيث الحروب الظالمة ، والإنتهاكات السافرة للقانون الدولي ، ولحقوق الإنسان ، والإستغلال الممنهج لثروات الشعوب وخيراتها ، والتغول الواضح على أحكام الشرعية الدولية ، واللعب بعدالة ومشروعية القضايا الدولية المطروحة لدى منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، والتي تأت على رأسها القضية الفلسطينية ، التي أصبحت شائكة وباتت رهينة السيناريوهات الأمريكية المبيتة والداعمة بإستمرار لنفوذ الكيان الأسرائيلي في الشرق الأوسط ، والذي توج مؤخرا بصفقة القرن ، هذا بالإضافة إلى قضية الصحراء الغربية المصنفة من قبل الأمم المتحدة كقضية تصفية إستعمار ، وقد طال أمدها هي الأخرى بعد أن عجزت هذه المنظمة الدولية عن حلها ، بسبب تواطؤها المفضوح وإذعانها الواضح لقرارات ومصالح الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي ، ونفس الشئ يحدث في سوريا وفي اليمن وليبيا ، وغيرهم من بؤر التوتر في العالم ، حيث التطاحن بين أبناء العمومة ، والحرب بالوكالة ، التي تغذيها هذه الدول المتنفذة ، التي لا يهمها إلا مصالحها الاستيراتيجية في مختلف أنحاء العالم .
على أي ، كل مقومات الصمود الأمريكي الظاهرة منها على الأقل للعلن بدت تهون ، بسبب تورط هذه الدولة المستبدة في حروب ظالمة ومتشعبة ، وبسبب سياساتها العدائية المحمومة ، التي ألبت عليها العديد من دول العالم وخاصة تلك المظلومة والمتضررة ، هذا فضلا عن إنعكاسات هذه السياسات الظالمة على الإقتصاد الأمريكي - العمود الفقري الذي تبني عليه أمريكا كل توجهاتها وأحلامها الرامية إلى المسك بتلابيب العالم - بحيث عرف الإقتصاد الأمريكي وسيعرف تراجعا مضطردا أمام الإستراتيجية الصينية ، القائمة على الإستثمار الواسع في شتى المجالات وفي مختلف أرجاء الدنيا ، وعلى الإدخار والإحتياط على المدى الطويل ، والإستفادة من آثار التهور الذي التي تلحق بأمريكا وحلفائها الغربيين في كل مرة وفي العديد من الأماكن ، ناهيك عن السياسة الرزينة للمحور الصيني والهادفة إلى تقوية نفوذه بأسلوب سلس ، وبإستيرايجية مدروسة تضمن له الإنتشار في شتى الأماكن ، والظهور في الأخير كقوة عسكرية يحسب لها حسابها ، وكمنافس إقتصادي عملاق قد يطيح الولايات المتحدة الأمريكية عن برجها العاجي ، الذي جعلت منه الآلة الإعلامية ودور السينما الأمريكية شبحا تخافه المعمورة ، ولعل ما حققته شركة هواوي من نجاحات وشهرة على حساب الشركات الأمريكية الرائدة في عالم التكنولوجيا والإتصال ، لخير دليل على تمدد الإقتصاد الصيني وشموليته لكافة المجالات بما فيها التكنولوجيا وبراءات الإختراع الكثيرة ، التي بدأت تعطي أكلها في وجه الإحتكار الأمريكي لكل شئ .
لاشك أن الإقتصاد الأمريكي اليوم يشهد بعض التراجع النسبي طبقا للإعتبارات المذكورة سلفا ، وللأوضاع الإجتماعية المتأججة حاليا ، فالولايات المتحدة اليوم تغلي على صفيح ساخن ، بدأت بوادره بالسياسات المتهورة للرئيس ترامب ، الذي سبق للديمقراطيين وأعضاء من الكونغرس ومسؤولين من إدارته ، إتهامه بالتفريط في مصلحة البلاد والإضرار بوضعها الداخلي والخارجي من خلال بعض التصرفات المشبوهة ومغالطته للرأي العام الأمريكي ، ما سبب في إنعدام ثقة المواطن الأمريكي في الإدارة التي تحكم بلاده بالمزاج والتهور ، لاسيما مع إزدياد مؤشر البطالة الذي تجاوز 47 مليون عاطل عن العمل ، ناهيك عن ضحايا جائحة كورونا الذين تجاوزوا حاجز المئة ألف من الموتى ، بفعل الإستهزاء بهذا الفيروس القاتل في بداية الأمر ، وعدم إتخاذ أية تدابير للوقاية منه مسبقا وللحد من تفاقم أضرار مؤخرا ، هذا فضلا عن إزدياد نسبة جرائم الكراهية بأكثر من 100/20 حسب تقرير صادر عن الإستخبارات الأمريكية في تشرين الثاني 2018 وقد بدت بوادر ذلك
في قتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد مؤخرا ، على يد رجال من الشرطة بتهور سافر ، تغذيه الكراهية التي يبديها ترامب ويذكيها المتطرفون البيض من المجتمع الأمريكي ، في ظل حادثة ليست هي الأولى وقد لا تكون الأخيرة بشأن ظاهرة التمييز العنصري في أمريكا ، ينضاف إلى هذا غليان الشارع الذي عانى من الخداع وتراكمات السياسة المتقلبة في هذا البلد الموصوف بالتطور وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ، في الوقت الذي يخرج فيه المواطنون الأمريكان إحتجاجا على الظلم ، غير مبالين بما يتهددهم من خطر كورونا ، وبما يتوعدهم به الرئيس ترامب من تدخل للجيش وتهديد بإستعمال القوة ، ينضاف إلى هذا الوضع المتأزم أيضا ، التوسع التلقائي لسلطة الولاة على ولاياتهم إلى درجة ما عادوا يذعنون معها لبعض أوامر السلطة المركزية وخاصة أوامر الرئيس المخمور ترامب ، وهذا معطى آخر قد ينبأ بتفكك الولايات المتحدة إذا ما أعيد إنتخاب هذا المعتوه ثانية ، وإستمر في تهوره وإتخاذه لقرارات إرتجالية غير مدروسة في المساقبل .
كل هذه الإعتبارات وغيرها قد يجعل سمعة وهيمنة الولايات المتحدة على المحك ، وقد يفتح الباب على مصراعيه أمام الصين لريادة العالم بالنظر إلى قوتها الإقتصادية النامية ، وإلى إنسجامها الإجتماعي وثقلها السياسي والعسكري على الساحة ، وإلى التحالف الذي يجمعها بدول وازنة كروسيا ، كوريا الشمالية ، إيران ، سوريا ، وغيرها من الدول التي بدأت تغير نظرتها للغرب بعدما إنكشف زور شعاراته الداعية إلى الحرية والديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان وإقامة العدالة في العالم ، تلك الشعارات التي حلم المظلومون والمضطهدون بتحقيقها ، وباتت وظلت حبرا على ورق ، راح ضحيته الكثير من الأبرياء في مختلف أرجاء المعمورة ، ولا أدل على ذلك من التلاعب بالقانون والشرعية الدولية ، وتغليب سياسة الغاب في كل ما مضى عن طريق الحروب الظالمة التي خاضتها أمريكا وحلفاؤها تحت مبررات واهية ، وحصدت ملايين الأرواح ، وكان الهدف منها دائما هو تعزيز النفوذ وضمان المصالح وفرض الهيمنة الأمريكية على العالم بغض النظر عن خسائر وعذابات البشر .
هذه القاعدة أصبحت اليوم مرفوضة ومتجاوزة أكثر من أي وقت مضى ، لا سيما من طرف الصين وكل من يصطف إلى جانبها ، خاصة بعد أن نهض هذا العملاق النائم بكل ما أوتي من قوة إقتصادية ، إجتماعية وسياسية ، وبكل ما يحظى به من دعم من قبل العديد من شعوب المعمورة ودولها ، الساعية إلى تكسير الأسطورة الخرافية لأمريكا ، والتي لازمت العالم ردحا من الزمن ، ولم تجلب له غير الخراب والدمار وإستفحال مأساة الإنسان في كل مكان .
بقلم محمد حسنة الطالب