-->

التدخل التركي في ليبيا: تفاهم مع روسيا وإقصاء لفرنسا وتهميش للمغرب العربي وفقدان إيطاليا البوصلة


منذ انهيار الدولة العثمانية لم تلعب تركيا أي دور فعال في صنع القرار الإستراتيجي في البحر الأبيض المتوسط فقد كانت مطبقة لقرارات الحلف الأطلسي، وتغير الوضع خلال السنوات الأخيرة في الملف السوري لكن المنعطف هو الملف الليبي.
وبعثر التدخل التركي في ليبيا أوراق الدول الكبرى وعلى رأسها فرنسا التي تعد الخاسر الأكبر في هذه التطورات. بينما تقف إيطاليا في موقف الحائر، وهي صاحبة المصالح الكبرى في هذا البلد المغاربي.
وظهرت معطيات تعد مثيرة وإن لم تلاق الاهتمام الذي تستحق حول التورط البريطاني-الفرنسي في استغلال الربيع العربي في ليبيا لتوظيفه في خدمة أجندات على شاكلة سايس بيكو، وهي أساسا الالتفاف على مطالب الديمقراطية والدفع بالبلاد إلى الانقسام بين شرق غني وغرب فقير. وساهمت دول في هذه الإستراتيجية وهي مصر والإمارات العربية والسعودية، بينما عارضت الولايات المتحدة هذا التوجه. وكان مضمون البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الذي سربه قراصنة قد كشف عن غضب واشنطن من الإستراتيجية الفرنسية-البريطانية وكيف ستحول البلاد إلى مسرح للهجرة غير القانونية وملجأ للإرهابيين.
في الوقت ذاته، عارضت عدد من الدول الأوروبية توجه باريس ولندن، وتزعمت ألمانيا المعارضة ولم ترغب بالزج بالاتحاد الأوروبي في نزاعات على الحدود، ثم إيطاليا التي استاءت كثيرا من التصرف الفرنسي. وكان رئيس حكومة إيطاليا السابق سيلفيو بيرلوسكوني قد ندد بسياسة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في ليبيا، مؤكدا أن الهدف هو السيطرة على النفط الليبي بسبب جودته وبسبب القرب الجغرافي، أي رغبت فرنسا في جعل ليبيا خزانا لاحتياجاتها النفطية. وبدوره، كان وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سيلفيني قد فضح المخططات الفرنسية في ليبيا وإفريقيا.
ووسط كل هذه التطورات، فجأة فرضت تركيا نفسها في الملف الليبي بسرعة مذهلة عبر التعاون العسكري مع حكومة السراج. ووقعت أنقرة اتفاقيات تعاون سياسي وعسكري والحدود البحرية مع طرابلس خلال نوفمبر الماضي، ولم يدرك الخبراء القفزة النوعية للتحرك التركي في وقت كان الجميع يعتقد في قيام قمة برلين المخصصة للنزاع الليبي التي انعقدت في العاصمة الألمانية خلال يناير الماضي. ونظرا لحيازة حكومة السراج على الاعتراف والشرعية الدولية، فقد أصبح لتركيا الضوء الأخضر للتدخل العسكري في ليبيا تنفيذا لمطالب الحكومة الشرعية، وهو ما نفذته عبر قوات حكومية وأخرى مسلحة قادمة من سوريا.
ورغم جائحة فيروس كورونا، نجحت تركيا في قلب الموازين العسكرية بدعمها لحكومة السراج وإلحاق الهزائم بقوات خليفة حفتر، هذا الأخير الذي فقد البوصلة العسكرية في ليبيا لا سيما بعدما فقد الدعم الأمريكي. ولم يعد الدعم الإماراتي والمصري وكذلك الروسي المحدود والفرنسي عاملا للحسم في النزاع. وتتميز التطورات الحالية بما يلي:
في المقام الأول، أصبحت الساحة الليبية بين روسيا وتركيا، ويجري الحديث عن اتفاق شبيه بالذي حدث في الملف السوري، تحافظ فيه روسيا على مصالحها بما في ذلك تسهيلات عسكرية مستقبلا. وكتبت جريدة لوموند في افتتاحيتها يوم الخميس الماضي أنه “في الوقت الذي ينظر الأمريكيون إلى جهة أخرى، ويحاول الأوروبيون التوصل إلى اتفاق، أقدمت تركيا وروسيا على تقسيم نفوذهما في ليبيا”.
في المقام الثاني، أفضى التدخل التركي إلى إضعاف الدور الأوروبي وخاصة الفرنسي في هذا النزاع، وكذلك الدول التي كانت تنفذ سياسة باريس عبر ضخ الأموال ولا سيما الإمارات العربية. وتعد إيطاليا من الدول التي خسرت وربحت، فمن جهة ترتاح لنهاية نفوذ فرنسا في ليبيا.
ومن جهة أخرى، يقول زهير الواسيني صحافي ومحلل إيطالي من أصول مغربية: “ليبيا تعد العمق الجيوسياسي للمصالح الإيطالية، لكن موقف روما يتميز بالضبابية والعجز، ولم يحسم. فقد كانت التطورات سريعة، كما أن جائحة كورونا التي ضربت إيطاليا بقوة جعلت الشأن الداخلي يتغلب على الملف الليبي”.
ويؤكد المحلل الإيطالي جيانكارلو إيليا فالوري: “القوات العسكرية الإيطالية تقوم بدور الصليب الأحمر وحراسة البحر بينما تركيا تفرض واقعا اقتصاديا وعسكريا جديدا ستكون فيه إيطاليا ذيلا لأنقرة رغم مصالحها الكبيرة”.
في المقام الثالث، زعزع التدخل التركي دول شمال إفريقيا، فقد أظهر ضعف مصر التي كان رئيسها عبد الفتاح السيسي قد أعلن معارضته للاتفاقيات بين حكومة السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
في الوقت ذاته، بادرت الجزائر منذ أسابيع قليلة إلى تعديل دستورها تحسبا إلى إرسال قوات عسكرية الى ليبيا في حالة وجود أي خطر على أمنها القومي في حدودها الشرقية. وعلاقة بالمغرب، فكما فقدت قمة برلين تأثيرها في ظل التطورات، تحاول الرباط تأكيد حضورها على قمة الصخيرات التي احتضنتها والتي أكدت على شرعية حكومة السراج. وتنأى تونس بنفسها عن هذا الصراع وتراهن فقط على عدم الامتداد إلى حدودها.

Contact Form

Name

Email *

Message *