-->

من أتاتورك حتى آيا صوفيا.. تركيا-أردوغان والزعامة الإسلامية


عاصفة دولية كبيرة أثارها قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يحول، مجدداً، متحف آيا صوفيا إلى مسجد. محللون وباحثون ومؤرخون يعتبرون هذا القرار خطوة مهمة نحو أسلمة تركيا. مقال هيئة التحرير في موقع “أهوال” المعارض قال إنه تقرر دق إسفين بين الدولة والعالم الحضاري تحت راية توليفة تركية إسلامية: “هذا انتحار ضد تاريخ الدولة الذي يشمل حرباً ضد الأكراد ومزيداً من الاغتراب للأقلية اليهودية والأقلية المسيحية”. وعبر البابا عن “ألم عميق”، وكتب المحلل التركي سليم كورو مقالاً في “نيويورك تايمز” بعنوان “الحلم الإسلامي التركي يتحول أخيراً إلى واقع”.
لم يتأثر أردوغان من ذلك، كما هو متوقع. “إن بعث آيا صوفيا يبشر بتحرير قبة الصخرة. قيامتها هي صوت خطوات المسلمين في أرجاء العالم وهم متحمسون. إن إحياء آيا صوفيا هو نار الأمل لجميع المضطهدين والمستغلين والمسحوقين في العالم، هم والمسلمون. إن إحياء آيا صوفيا تعبير عن أننا أمة تركية ومسلمون وبشر لنا رسالة جديدة للعالم”، بشر أردوغان بهذا في خطاب احتفالي بمناسبة إعادة تدشين المسجد.
الأسلمة هي شعار قابل للاستيعاب والفهم، خصوصاً حين تقال الأمور بلغة أردوغان. ولكن الكنيسة المسيحية الفخمة التي أصبحت مسجداً في العهد العثماني وتحولت إلى متحف ثم إلى مسجد، تم استخدامها كأداة لعب سياسية لا تقل عن كونها موقعاً دينياً مقدساً، عندما حول مصطفى كمال أتاتورك مسجد آيا صوفيا إلى متحف، وهو قرار أثار في حينه حماسة دولية وغضباً كبيراً في أوساط الحركات الإسلامية في تركيا. وشرح في حينه بأنه “سيكون من المنطقي تحويل آيا صوفيا إلى متحف يفتح أمام الزوار من جميع الشعوب وجميع الديانات، بدلًا من أن يكون عائداً لديانة واحدة ومجموعة سكانية واحدة. لم يخف أتاتورك موقفه من الإسلام عندما قال إن “الإسلام في المجتمع والسياسة الإسلامية هو المسؤول عن فشل الحداثة… وحدة الدين غير ضرورية لخلق أمة… الأمة تشكل على أيدي أشخاص يتقاسمون تراثاً تاريخياً غنياً، وتوقاً جدياً للعيش معاً والحفاظ على تراثهم المشترك”

من السهل جداً وضع تراث أتاتورك أمام تراث أردوغان، وعرض الرئيس الحالي كمن يريد أسلمة الدولة التي ما زالت تعدّ في الدستور دولة علمانية وديمقراطية. ولكن المتحف الذي كان يرمز في نظر تركيا الجديدة إلى التوجه للغرب، والعلمانية والعلم، لم يوقف الرواية الإسلامية حتى في الخمسينيات عند صعود الحزب الديمقراطي إلى السلطة في 1950. المناخ السياسي تغير، وتاقت تركيا إلى تعزيز العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية. وتم وضع حركات اليسار والشيوعيين على لوحة هدف النظام الجديد لإظهار التصميم ومقاربة ما اعتبر كشركاء للاتحاد السوفييتي. وهكذا يعرضون تركيا حليفة للولايات المتحدة. وقد كانت الحركات الدينية شريكة في هذا الصراع، والتي حظيت في حينه بدعم كبير من قبل النظام. لم تفقد آيا صوفيا مكانتها كمتحف، لكن في ذلك الوقت تم بحث إمكانية إعادتها إلى وظيفتها الدينية.
بعد مرور ثلاثين سنة وفي انقلاب عسكري في 1980، تغيرت مكانة المتحف. وبأمر من النظام العسكري تحول من رمز موحد كما اعتقد أتاتورك إلى مصدر دخل سياحي مهم
بعد مرور ثلاثين سنة على ذلك، في انقلاب عسكري في العام 1980، تغيرت مكانة المتحف. وبأمر من النظام العسكري، انتقلت هيئة الممتلكات الثقافية والمتاحف من وزارة التعليم إلى وزارة الثقافة والسياحة، ومن رمز تراثي وتاريخ يوحد مثلما اعتقد أتاتورك، تحول المتحف إلى مصدر دخل سياحي مهم. وبعد عقد، حظي المتحف مرة أخرى بدور سياسي جديد. ففي أعقاب حرب الخليج الأولى ورفض الاتحاد الأوروبي ضم تركيا إلى صفوفه، بحث النظام التركي عن طرق لتشكيل صورة الدولة كدولة إقليمية عظمى وعلى الغرب أن يضمها إلى حضنه. كانت الاستراتيجية أن يتم وضع تركيا كجسر بين الشرق والغرب. وبدأت آيا صوفيا تشكل هي والمسجد الأزرق (مسجد السلطان أحمد) الشعار الوطني. هكذا مثلاً، في الشعار الذي زين وثائق التنافس على استضافة الأولمبياد في 2020 (التي خسرتها تركيا)، تم رسم خط أفق ظهرت فيه آيا صوفيا مثل ممثل غربي علماني، والمسجد الأزرق مثل رمز للإسلام والشرق، وتحتهما شعار “مربوطون معاً بجسر”. ولكن واجهة العرض المتناغمة هذه ووجهت بمعارضة قوميين وإسلاميين أتراك لم يكفوا عن المطالبة بإعادة المتحف إلى عهده الديني السابق. وفي العام 2014 تجمع نحو 40 ألف مصلّ في واجهة المتحف وأقاموا صلاة جماعية دعوا فيها إلى إعادة تحديد مكانة المتحف إلى مسجد. قبل ذلك، أي في العام 2012، قال ساليا توران، رئيس جمعية الشباب في أناضوليا، إن نحو 50 مليون مواطن وقعوا على عريضة تطالب بتحويل المبنى إلى مسجد. أما رد أردوغان، الذي كان في حينه رئيس الحكومة، فكان رداً ممتعاً: “نملك المسجد الأزرق إلى جانب آيا صوفيا. اتركوا آيا صوفيا لحالها واذهبوا واملأوا المسجد الأزرق”. عملياً، كان بإمكان المسلمين الصلاة في آيا صوفيا حتى عندما كانت متحفاً، حيث إن جزءاً منها تحول إلى مسجد في الثمانينيات على خلفية ضغط الجمهور.
وعن سؤال ما الذي جعل أردوغان يتخذ هذه الخطوة الآن؟ ثمة عدد غير قليل من النظريات؛ قسم منها يقول بأنه يمهد الأرضية للانتخابات، لكنها لن تكون قبل العام 2023. ونظريات أخرى تعتقد أن هذه الخطوة أعدت للتغطية على فشل الخطة الاقتصادية التي تهدد اقتصاد تركيا وتهدد التورط الذي لا ينتهي في سوريا. أو لعله أراد طرح نفسه زعيماً للعالم الإسلامي، مثل سلطان أو خليفة جديد، ويعتم على مكانة السعودية ويتحدى العالم المسيحي. تعهد أردوغان للرئيس الروسي، فلادمير بوتين، بعدم المس بحرية زيارة المسجد، وعدم المس بالعناصر المسيحية الفاخرة التي تزينه، وأنه سيتم تغطية هذه الزخارف أثناء صلاة المسلمين وكشفها بعد انتهائهم منها. ولكن من الواضح، سواء من توجه بوتين أو من جواب أردوغان، أن آيا صوفيا أصبحت من الآن فصاعداً تراثاً تركياً إسلامياً بملكية الحاكم.
لهذا العقار نفقاته التي لا ينعكس تمويلها فحسب على أعمال الصيانة والترميم والحماية، فمن يملك امتياز بيع التذاكر هو شركة سويسرية باسم “سيسبا”، التي يملكها ويديرها فيليب أمون، وهو مواطن سويسري وابن لعائلة يهودية. والده أقام الشركة في العشرينيات. والتميز العالمي للشركة، إضافة إلى كونها سرية ولا تقوم بنشر تقارير مالية، هو في اختراع الحبر السري الذي يستخدم في طباعة الأوراق النقدية والسندات ووثائق تقتضي توقيعاً مميزاً، هي شركة معروفة في أرجاء العالم، وقيمتها في كونها تملك نحو 85 في المئة من سوق الحبر السري الذي يتم تسويقه في العالم. أمون نفسه متبرع وعضو في مجلس إدارة متحف الكارثة العالمي ومؤسسات يهودية كثيرة أخرى. ورغم معارضة شديدة في تركيا لمنح الامتياز لشركة يهودية، فازت الشركة في 2018 بالامتياز لسبع سنوات مقابل نحو 3.9 مليار دولار.
عند نقل السيطرة على المسجد إلى وزارة الشؤون الدينية يتوقع أن تطلب الشركة تعويضات عن خسارة المداخيل المتوقعة. هذا إضافة إلى خسارة الحكومة التركية لأنها لن تحصل على نصيبها من بيع التذاكر الذي يبلغ نحو 400 مليون ليرة تركيا في السنة. “في الوقت الذي يقف فيه مواطنون أتراك أمام صعوبات اقتصادية تتزايد يومياً، فإن أموال ضرائبهم توجه لدفع تعويضات فلكية ومشاريع ضخمة”، هكذا اتهمت عضوة البرلمان فليز كريست جيولو، من الحزب المؤيد للأتراك “اتش.دي.بي”. عضوة البرلمان أثارت شكاً جدياً آخر يتعلق بتمويل ترميم المسجد. آيا صوفيا مشمولة في قائمة مواقع التراث العالمي، لهذا هي تحصل على تمويل من الأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى لأعمال الصيانة والترميم. ولأن قرار أردوغان جرى اتخاذه دون التشاور مع اليونسكو، فثم تخوف من توقف هذه الصناديق التي تدعمها.
بقيت هذه الأسئلة بدون إجابات، ولكن يبدو أن أموال تمويل المسجد أو الإدارة الجارية لتركيا لا تعتبر مشكلة بالنسبة لأردوغان. في هذا الأسبوع، نشر الصحافي التركي بوراك تويجان قائمة طويلة ومفصلة تعرض الانقلاب الذي مر فيه أردوغان وحزبه في الـ 18 سنة من حكمهم، من كونهم مصدر الأمل للأشخاص عديمي الأمل، إلى حزب منحط.
تحدث تويجان عن سيارات فاخرة وفيلات واسعة جداً وحمامات بصنابير مغطاة بالذهب في مكاتب شخصيات الحزب الرفيعة، التي تحولت إلى معيار ورمز للمكانة الاجتماعية. فيلم قصير نشره زعيم الجيل الشاب في حزب “العدالة والتنمية” في مدينة شنلي أوروبا، محمد ساليا سارتس، يعرض السياسي الشاب وهو يستحم في الجاكوزي ويريد من الفقراء عدم إزعاجه. قدم سارتس استقالته بعد كشف الفيديو، وقال إن الفيلم القصير موجه للنشر فقط في مجموعته الشخصية. يذكر تويجان قوارب أبناء أردوغان التي كشف عنها في تسريبات وثائق بنما، وقائمة الطلبات التي طرحتها ابنته سمية من أجل فيلاتها الفاخرة غربي تركيا.
من له امتياز بيع التذاكر في آيا صوفيا شركة يملكها ويديرها فيليب أمون، وهو يهودي سويسري ورغم معارضة شديدة في تركيا، فازت في 2018 بالامتياز لسبع سنوات مقابل 3.9 مليار دولار
وهو لم ينس بالطبع حقيبة السيدة الأولى، أمينة أردوغان، من إنتاج شركة “هيرمز بيركن”، التي يقدر ثمنها بخمسين ألف دولار، إضافة إلى دبوس الزينة الذي يقدر ثمنه بـ 15 ألف دولار. عضوة أخرى في النخبة المقربة هي المذيعة في اليوتيوب، بشرى نور شلار، التي استضافت حفل “بيبي شاور” الفخم الذي أثار غضب الجمهور الكبير. شلار هي زوجة نائب وزير الصحة أحمد أمين سويلماز. وهو بالمناسبة ابن أور سويلماز الذي قتل في هجوم الجيش الإسرائيلي على سفينة “مرمرة” في قافلة غزة في أيار 2010.
تلك القائمة المثيرة للغضب قائمة طويلة وتشمل كاتبة المقالات عائشة بوهرلار، من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، التي فازت بعطاءات حكومية بمبلغ 200 ألف دولار. ومدير اتصالات أردوغان فهر الدين التون، الذي استأجر قطعة أرض تطل على مضيق البوسفور بمبلغ 40 دولار فقط. ومئات مواقع الإنترنت التي تحدثت عن هذه القصة وتم إغلاقها في أعقاب ذلك.
إن بعث آيا صوفيا هو مثل “صوت المضطهدين والمسحوقين والمسلمين”، مثلما أعلن أردوغان، لا يشمل كما يظهر كبار الشخصيات في حزبه وأبناء عائلته ومقربيه. الرئيس الذي قام ببناء قصر فاخر محصن لنفسه، على أيدي حرس رئاسي خاص يرتدي ملابس تقليدية، نسي طفولته الصعبة وملايين الناخبين الذين جاءوا من طبقات الضائقة. ورغم ذلك، مثلما في إسرائيل، التي اعتبرها عدوة ودولة إرهابية، هؤلاء المضطهدون يستمرون في انتخابه ويعتبرونه منقذ الأمة، يتبين أن الفساد الفاخر هو علامة على التقدير والنجاح.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 17/7/2020

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *