«حزب الله» من التحرير إلى الطغيان
فيما أكتب هذا المقال الأسبوعي صباح الثلاثاء بغية نشره كالمعتاد في عدد «القدس العربي» الصادر يوم الأربعاء، ينتظر لبنان ومعه عموم الشرق الأوسط، بل والعالم بأسره لما لهذه المنطقة من أهمية استراتيجية، ينتظرون أن تُصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمَها في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. وقد درج تشبيه المفعول المنتظر لقرار المحكمة بالقنبلة، وهو مجاز بات يرتبط بانفجارين فعليين: أولهما ذلك الذي أودى بحياة الحريري ومعه 21 شخصاً آخر في عام 2005، وقد أحدثه تفجير شاحنة حوت كماً كبيراً من المواد المتفجرة قُدّرت قوة انفجارها بما يعادل طنّاً من مادة التي إن تي؛ وثانيهما ذاك الذي وقع قبل أسبوعين في مرفأ بيروت، وقد بلغت قوته ما يعادل 1200 طنّ من التي إن تي، ولم يودِ «سوى» بحياة ما يقارب عشرة أضعاف عدد ضحايا 2005، لكنّ مفعوله التدميري كان متناسباً مع قوته وقد حطّم جزءاً كبيراً من العاصمة اللبنانية.
أما العلاقة بين الانفجارين وقرار المحكمة فهي ناتجة عن أن أصابع الاتهام تتجه في كلا الحالين إلى «حزب الله»: في الحال الأول من خلال ادلّة جنائية وتحقيق طويل تركّز على مسؤولية خمسة متّهمين منسوبين إلى الحزب المذكور، وفي الحال الثاني بنتيجة زعم الحزب ذاته تولّيه الذود عن الوطن وتذرّعه بهذا الزعم كي يبني دويلة داخل الدولة اللبنانية، خارجة عن سيادتها ومشرفة على أهم مرافقها. وقد ارتدّ الزعم على الزاعم إذ بات قسم كبير من اللبنانيين، من كافة الطوائف، يحمّل الحزب مسؤولية انفجار المرفأ، سواء أكان انفجاراً أُحدِث بشكل متعمّد أم بغير قصد، وسواء أكان للحزب فيه يدٌ مباشرة أم غير مباشرة من خلال المسؤولية العامة، على غرار مسؤولية كافة الذين كان أمن المرفأ منوطاً بهم بصفة رسمية أو غير رسمية.
فما الذي جعل صورة «حزب الله» تنحطّ لدى غالبية سكان لبنان من صورة الحامي إلى صورة الطاغي؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في مستويين: مستوى عام وهو من باب تحوّل المقاومة إلى دولة، وخاص وهو يتعلّق بحيثيات منشأ الحزب وطبيعته. على الصعيد العام، فإن التاريخ الحديث شهد حالات عدّة من قوى قادت حروب تحرير ضد طغيان أجنبي، ثم استبدلته بطغيانها هي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية والاتحاد الوطني الأفريقي الزيمبابوي قوتان خاضتا حرب تحرير ناجحة ضد طغيان أجنبي استعماري وانتهت إلى بناء نظام سياسي دكتاتوري انتفض ضدّه شعبا البلدين.
تعزّزت صورة الحزب كأداة وصاية خارجية عندما استنفر أنصاره للثناء على دور النظام السوري في لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري، ممثل الوصاية السعودية التي تشاركت مع الوصاية السورية على لبنان
صحيح أن الحزب اللبناني لم يستأثر بالسلطة في لبنان، إلّا أن ذلك يرتبط بكونه لم يحرّر البلد بأسره بل جزأه الجنوبي المحتل من قِبَل الدولة الصهيونية، ولم يكن التحرير دحراً كاملاً للمحتل، بل بقي سيف هذا الأخير مسلّطاً فوق رقاب اللبنانيين وقد ضرب البلد بعنف بعد خروجه بست سنوات بما فرض على «حزب الله» أن يقبل بزيادة كبيرة في حجم ومهام القوات الدولية في جنوب لبنان وأن يرضى عن موافقة الحكومة اللبنانية على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بالرغم من أنه موجّه ضدّ الحزب.
ومنذ حرب الثلاثة وثلاثين يوماً في عام 2006، تحوّل «حزب الله» من بناء دويلته في المناطق التي سيطر عليها من خلال معركة التحرير وبعض المناطق الأخرى التي سيطر عليها من خلال العصبية الطائفية، إلى توسيع مشروعه نحو فرض وصاية دويلته على الدولة اللبنانية برمّتها وأهم مرافقها، بما فيها مطار بيروت ومرفأها، لاسيما إثر أحدات عام 2008. وقد تغيّرت صورة الحزب بموازاة ذلك التحوّل من صورة الحزب الطائفي الذي يشكّل درعاً لمناطق انتشار طائفته إزاء العدوّ الصهيوني إلى صورة حزب طائفي يسعى وراء إحكام سيطرته على البلاد برمّتها وبكافة طوائفها بعدما وجد قوة طائفية أخرى يستند إليها في مسعاه هذا، ألا وهي الحركة التي تزعّمها ميشال عون، وقد انقلب هذا الأخير من المزايدة على الجميع بالعداء للنظام السوري و«حزب الله» إلى التحالف مع الطرفين. ثم كانت نقلة نوعية أخرى بدفع الحزب بميشال عون إلى سدة رئاسة الدولة اللبنانية في عام 2016، ثم بفرضه حسّان دياب رئيساً للحكومة ومعه حكومة خاضعة لوصايته في آخر عام 2019، وذلك إثر انتفاضة شعبية عارمة ضد النظام السياسي والاقتصادي اللبناني بكافة أطرافه بدون استثناء.
أما المستوى الخاص بتحوّل صورة «حزب الله» فيتعلّق بكونه ليس تجسيداً لسيادة وطنية محضاً (وبهذا يختلف عن مثلي الجزائر وزيمبابوي المذكورين أعلاه)، بل هو ذاته أداة وصاية خارجية. وهو أحرى بأن يسمّى «حزب ولاية الفقيه» مثلما عرّف به أمينه العام، فهي صفة دقيقة لا جدال فيها إذ أن الحزب يدين رسمياً بالولاء لحاكم إيران، «المرشد الأعلى» بينما نسبُ أفعال بشرية لهداية إلهية إنما هو زعمٌ تشترك به شتى القوى المتضاربة بعقائدها وممارساتها (أفلا يعتقد الداعشيون أنهم «حزب الله» بامتياز؟). وقد تعزّزت صورة الحزب كأداة وصاية خارجية عندما استنفر أنصاره للثناء على دور النظام السوري في لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري، ممثل الوصاية السعودية التي تشاركت مع الوصاية السورية على لبنان بعد اتفاق الطائف في عام 1989 وحتى الاجتياح الأمريكي للعراق في عام 2003، ومن ثم من خلال مشاركته المباشرة في الحرب الأهلية السورية دفاعاً عن حكم آل الأسد وتحت إشراف إيراني مباشر. هذا وبينما بات شعب إيران ذاته يقوم بانتفاضة تلو أخرى ضد نظام «المرشد الأعلى» الذي يتّسم بسمات مشتركة من الفساد والرأسمالية الفاحشة مع النظام السائد في لبنان، لا عجب من أن تتصاعد النقمة ضد «حزب ولاية الفقيه» في لبنان وتشمل كافة طوائف البلاد.
جلبير الأشقر ـ كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي