-->

شمس الشعر تشرق من شنقيط


حديث الشعر في بلاد شنقيط (1)، من نشأته إلى يومنا هذا بمراحله التي مر بها وظروفه التي قيل فيها وأصنافه التي تضمنها، حديث يطول؛ فلو أرسلت له عنان الفكرة لسالت بحبره الأباطح، فلذلك لا يمكن أن تسعه هذه الأسطر، ولا أن تكون توثيقا شاملا له، ولكن يمكن اعتبارها حجر أساس ينطلق منه القارئ النهم ويجد فيه الأديب المهتم بالأدب العربي بعض ضالته، أو ورقة تعريفية يطلع في مضامينها على الشعر في هذا الوطن العربي القابع في أقصى زاوية من غرب أفريقيا الملتحف بالكثبان الرملية بين أحضان السهول والتلاع، متخذا من المحيط الأطلسي أداة تكييف يلجأ إليها حين تشتد الحرارة لتجود له بنسمات تخلص إلى بنيه ولو بعد حين.
لقد جالت قرائح شعراء هذه البلاد في شتى ميادين الشعر فنبغوا فيها وبزغوا بزوغ الشمس، إلا أن مطلعهم من الغرب، فنظموا في جميع أغراضه من مديح ومدح وهجاء ورثاء وفخر ونسيب وغزل وبحوث علمية، إلخ. وقد برعوا في الوصف الذي يعتبر من أصعب تلك الأغراض.
أما نشأته، فقد كانت أواسط القرن الحادي عشر بعد دخول الإسلام إلى هذه الأراضي وقدوم العرب الفاتحين مهاجرين وتجارا، حيث تلقوا منهم العربية حتى صاروا عربا أقحاحا يتكلمون بلسان عربي مبين شأنهم شأن أكلة الشيح والقيصوم.
إلا أن كثيرا من التراث الأدبي لهذه البلاد قد ضاع نتيجة للحروب والظروف المعيشية التي تقتضي كثرة الترحال بين الفينة والأخرى، فلم تبق إلا مخطوطات متناثرة في قبائل شتى أو محفوظات مبعثرة تتناقلها الأفواه، وقد نبه على ذلك والدنا محمد المختار بن اباه -حفظه الله تعالى- في كتابه الموسوم "بالشعر والشعراء"(2) فقال: "إن كثيرا من شعر هذه البلاد قد ضاع، بسبب الإهمال، وطبيعة البدو، والاتكال على الحفظ، وقلة وسائل التدوين، وعدم توفر أدوات النشر".
ولكننا -مع ذلك كله- نجد أن يد المنقبين استطاعت أن تستخرج لنا بعض تلك الكنوز الخبيئة، فسدت بذلك عوزا وأصلحت ما أفسدته أيادي المستعمر الغشوم وكشفت بعض معالم تلك الحقب المنصرمة التي طمسها تعاقب الجديدين.
وقد اختلف رجال الدين في العصور الأولى في حكم قول الشعر، فمنهم من يعتقد أنه سفاه كله؛ فهو إما غزل يدعو إلى الريبة أو هجاء يأكل لحوم الإخوة في الدين، ومن الجدير بالذكر حكاية طريفة تناقلتها الألسن ووجدت لها آذانا صاغية، وهي أن أول بيتين قيلا في الغزل في بلاد الملثمين هما لفتى من بني ديقب قام أهله بتعزيره وأوثقوه كما يوثق من أصابه مس من الجنون وهما:
رب حوراء من بني سعد الاوس
حبها عالق بذات النفوس
جعلت بيننا وبين الغواني
والكرى والجفون حرب البسوس
ومن رجال الدين من يتحرج من نظم الشعر تورعا، ومنهم من لا يرى فيه حرجا سوى أنه يزري بالعلماء على حد قول الشافعي، فهو لا يرى فيه كبير شأن، معتبرا أنه أدنى صفات الكريم وأعلى صفات اللئيم.
وقد كانت مدارس الشعراء في موريتانيا متباينة في أساليبها، فمنها المتأثر بالأدب الجاهلي والأموي وهو الغالب، نظرا لحواجز عازلة جعلتهم يعيشون حياة بدوية تكاد تكون صورة طبق الأصل لتلك الحياة التي عاشتها قبائل العرب في الجزيرة العربية في العهد الجاهلي، ومن أعلامها الذين ذاع صيتهم رائد النزعة الجاهلية امحمد ابن الطلب (ت 1272 هـ)، الذي قال فيه العلامة الكبير محمذن فال بن متالي: "هذا عربي أخره الله"(3).
ومنها المتأثر بالذائقة العباسية والأندلسية، ومن نوابغها عبد الله ابن رازگه (ت 1144 هـ)، ومنها مدرسة تأثرت بالعلوم الإسلامية دينية وأدبية وتاريخية وقد برع فيها الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي الكبير (ت 1286 هـ).
هذا وإنه لا يزال الشعر يأخذ حيزا كبيرا من حياة الموريتانيين فلعل للحديث بقية.
{وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب}

محمد ينجح بيدي
المراجع والمصادر:
(1) شنقيط: هو الاسم الثقافي والتاريخي لهذه البلاد وهي مدينة تعود نشأتها إلى عام 160هـ، وقد بنيت في القرن السابع الهجري، ومعناها عيون الخيل، أما "موريتانيا" فهو الاسم الذي اصطلحه لها الاستعمار الفرنسي.
(2) انظر الصفحة السادسة.
(3) راجع ترجمته في كتاب الوسيط صفحة رقم 94.

Contact Form

Name

Email *

Message *