-->

ماذا تعلَّمت من التجسُّس على طالبان؟ ضابط امريكي يكشف التفاصيل


مقدمة
إيان فريتز، ضابط أميركي سابق أوكلت إليه مهمة التجسُّس على طالبان، يحكي تفاصيل مهمَّاته لرصد تحرُّكات مقاتلي الحركة، ما سمعه من خطط مخيفة ونكات مُضحكة في آنٍ واحد، وما رآه من حماستهم في القتال، وما آلمه بعد خدمته الطويلة في جبال أفغانستان.
نص الترجمة
حين يسألني الناس عمَّا فعلته في أفغانستان، أقول لهم إنني أمضيت وقتي في الطائرات واستمعت إلى طالبان. كانت مهمتي أن أرسل "إنذارات بالخطر" إلى قوات حلف الناتو، ومن ثمَّ قضيت ساعاتي أسترق السمع لمقاتلي طالبان، محاولا أن أفهم خططهم. قبل أن أباشر مهامي، حذَّرني البعض من أنني سأسمع أشياء فظيعة، وقد سمعتها بالتأكيد، لكن حين تمضي وقتك مستمعا لأشخاص آخرين ساعات وساعات، حتى إن كانوا أشخاصا يعتزمون قتل أصدقائك، فإنك تسمع في الأخير أشياء عادية. في الحقيقة، استطاعوا أن يُضحكوني في عدد من المرات.
في إحدى ليالي الشتاء بشمال أفغانستان، وعلى ارتفاع أكثر من ألفَيْ متر، حيث تهبط الحرارة إلى ما دون الصفر، سمعت المحادثة الآتية:
"ضع العبوة الناسفة هناك في الأسفل عند المنعرج، ولن يروها".
"يمكننا أن ننتظر حتى الصباح".
"لا، لا يمكن. (الأميركيون) سيأتون مبكرا، ونريد للعبوة أن تكون هناك لنقتل أكبر عدد ممكن".
"أعتقد أنني سأنتظر".
"لا، لن تنتظر! اذهب وضعها".
"هل عليَّ أن أقوم بذلك فعلا؟".
"نعم! اذهب ونفِّذ!".
"لا أريد ذلك".
"يا أخي، لِمَ لا؟ إن الجهاد واجب علينا".
"يا أخي، الجو بارد جدا على الجهاد".
نعم، قيلت النكتة وهُم منهمكون في التخطيط لقتل رجال كُلِّفتُ أنا بحمايتهم، بيد أن النكتة لم تكن عبثية أبدا، ولم يُخطئ الرجل، فحتى في طائراتنا وبستراتنا وقفَّازاتنا المصنوعة من الصوف، كان الجو باردا للغاية على خوض حرب.
في عام 2011، كان هنالك 20 شخصا في العالم مدرَّبين للقيام بالمهمة التي قمت بها، بل وشخصان فقط فعليا هم مَن حصلوا على التدريب نفسه بالضبط الذي حصلت عليه. فقد تعلَّمت لغتَيْ الباشتو والدَري، اللغتين الأساسيتين في أفغانستان، ثمَّ كُلِّفت بتلقي تدريب خاص لأقوم بمهام لغوية على متن طائرات قيادة العمليات الخاصة التابعة للقوات الجوية (AFSOC)، التي امتلكت نحو 12 طائرة. لكنني لم أركب سوى الطائرات المسلحة سلاحا ثقيلا، وهي طائرات تتباين خواصها من حيث سلاحها وقدرتها التدميرية، فبعضها يمكن أن يدمِّر سيارة فحسب لا أكثر، في حين يُمكن لبعضها الآخر أن يدمِّر مبنى كاملا. استخدمنا هذه الأسلحة في أفغانستان ضد الناس، وتمثَّلت مهمتي في اختيار أيِّ أناس بالضبط. هذا باختصار، ودون محاولة مني للتجميل، تعريف مهمة "الإنذار بالخطر".




لقد خُضت 99 مهمة قتالية بإجمالي عدد ساعات بلغ 600 ساعة، ولعل 20 من تلك المهام (نحو 50 ساعة) اشتملت على معارك قتالية فعلية، في حين استحوذت مهام "الاستخبارات المفيدة" على نحو 100 ساعة، وتضمَّنت الاستماع إلى "الأشرار" وهُم يناقشون خططهم "الخبيثة". أما بقية الوقت، فلم تشغله سوى أحاديثهم العادية التي جلست أتجسَّس عليها ليس إلا.
بالإضافة إلى النكات، تحدَّث المقاتلون عن أشياء مماثلة لما يتحدَّث عنه المرء مع جيرانه، مثل ترتيبات الغداء، والنميمة، وظروف الطرق السيئة، والشكوى من الأحوال الجوية، بالإضافة إلى التشاجر والسباب والسخط، والتطلُّع نحو المستقبل الذي يرحل فيه الأميركيون، والاستغراق في أحلام استعادة السيطرة على بلادهم، والكثير جدا من الهراء المحض.
ثمة رجل يُدعى "كليمة" سمعت منه تكرارا عجيبا للأسماء والجمل لإثبات وجهة نظره، وهي سمة وجدتها في أفغان كثيرين ممن قابلتهم. لا أعرف بالضبط مَن هو "كليمة"، وأغلب الظن أنه ليس ذا شأن، لكن أحدهم ظل ينادي اسمه عبر الراديو عشرات المرات ذات ليلة، وبالتنويعات والنغمات الممكنة كافة. وقد استمعت له حتى انتهى، دون أيّ رد من "كليمة". لعل الراديو الخاص به انطفأ، أو أنه لم يرغب بالحديث مع هذا الرجل، أو لعله كان ميتا، ولربما قتلته أنا. لم أسمع بعد تلك الليلة قط صوت "كليمة" عبر الراديو.
امتلك مقاتلو طالبان موهبة خطابية أخرى، وهي الأحاديث الحماسية. لم أرَ قط في حياتي قاعة اجتماعات تسويقية أو موقع تصوير لفيلم أو غرفة تغيير ملابس لأحد الفِرَق الرياضية وهي تعج بذلك القدر من الحماسة المفرطة التي أظهرها مقاتلو طالبان قبل وأثناء وبعد كل معركة. لعله التمرُّس في أمور الحرب، لا سيما وقد أمضوا معظم حياتهم على خطوط النار، أو لعله الإيمان الراسخ والصادق بقداسة معاركهم. وكلما زاد سماعي لهم، فهمت بأن تلك الأحاديث الحماسية ضرورة من ضرورات استمرارهم في القتال.
وكيف يتسنَّى لهم، دون تلك الحماسة، أن يواصلوا حربا بوجه عدوٍ لا يُعيد النظر مرتين في إلقاء قنابل مُصمَّمة لهدم المباني فوق رؤوس الرجال؟ ليست تلك مبالغة، فقبل عيد ميلادي الثاني والعشرين ببضعة أيام، شاهدت طائرة مقاتلة وهي تُلقي قنابل يفوق وزن الواحدة منها مئتي كيلوغرام في أرض المعركة، فتحوَّل على إثرها عشرون رجلا إلى تراب. بينما تطلَّعت بناظري إلى المشهد، المملوء الآن بالحُفَر بدلا من الرجال، قطع الصمت لوهلة ضوضاء الحرب، وظننت أننا قتلنا ما يكفي منهم. ولكن هيهات! حين وصلت مروحيتان مقاتلتان، عادت أصوات مقاتليهم: "استمروا في إطلاق الرصاص وسينسحبون!"، وبينما واصلنا هجومنا أخذوا يُردِّدون: "يا إخوان، إننا ننتصر، يا له من يوم عظيم". ثمَّ سقط أمامي ستة أميركيين قتلى، فاخترقت أُذني صرخات الابتهاج: "الله أكبر، إنهم يموتون!".
لم يضيرهم أنهم يحاربون دون دروع ببنادق يبلغ عمرها 30 عاما، في مواجهة طائرات مقاتلة وثقيلة التسليح ومروحيات وطاقم مُجهَّز على الأرض بمعدات تفوق معداتهم بكثير، ولم يضيرهم أيضا أن مئة منهم ماتوا في ذلك اليوم. لقد حافظ مقاتلو طالبان على معنوياتهم في السماء في خضم تلك الضوضاء المحيطة بهم، وأصوات القنابل والرصاص من خلفهم، وإخوانهم المتساقطين قتلى أمامهم، بل ومضوا يُشجِّعون بعضهم بعضا، ويُصِرُّون على أنهم ينتصرون، وأنهم سينالون منا في المرة القادمة بشكل أفضل.
كانت تلك مهمتي الأولى في أفغانستان. مرَّ الوقت، وتعلَّمت ما تعنيه كلمات سرية معيَّنة، وتعلَّمت كذلك تمييز أصواتهم من بين الرصاص، وتحسَّنت قدرتي على الاستماع. وسرعان ما أفصح لي مقاتلو طالبان عن أشياء أكثر وأكثر. في ربيع 2011، شاركت في مهمة مساندة لفريق من القوات الخاصة هوجم لتوِّه في قرية شمال أفغانستان، وقد نُقلنا للقيام بالاستطلاع، وهو ما يعني الطيران في دوائر لساعات وساعات، ومشاهدة السكان المحليين والاستماع إليهم.
في استطلاعاتنا، شاهدنا بضعة رجال يزرعون أرضا، أو هكذا بدا لنا الأمر. أخبرنا الطاقم الموجود على الأرض بأن هؤلاء الرجال أنفسهم هُم مَن هاجموهم، وأنهم لا يزرعون، بل يُخفون أسلحتهم في الحقل. أطلقنا النار عليهم إذن، ومن بين الرجال الثلاثة، فقد أحدهم رجليه مباشرة، وسقط آخر صريعا في مكانه، في حين تناثرت بعض أطراف الأخير لبضعة أمتار جرَّاء الانفجار حتى ظننَّاه ميتا. بيد أنه نهض وركض حتى عاد أصدقاؤه ونقلوه في عربة يدوية نحو سيارة. بدا أنهم يحاولون الهرب ليس إلا، غير أن احتمالية عودتهم للانتقام كانت سيناريو مرجَّحا بالقدر نفسه، وخشي طاقمنا على الأرض أن يستجلبوا عددا أكبر من الرجال والسلاح لرد الصاع صاعين. لكن أصواتهم كانت مسموعة لي، ولم يبدُ لي أنهم مهتمون بالقصاص منَّا.
"هيا، انطلق! نحن قادمون. لقد أُصيب ’عبدول‘. إنه معنا في السيارة، نحن قادمون وسنُنقذه". لقد حاولوا نقل صديقهم إلى طبيب أو شخص يستطيع إنقاذ حياته، بيد أن سيارتهم تباطأت بعدئذ. "لا، أخي. لقد مات". لم يكن أيٌّ ممن تبقى منهم تهديدا لنا، فتركناهم لحالهم.
طوال فترة خدمتي، وفي المرة تلو الأخرى، فاق عدد قتلاهم قتلانا دائما، وخسروا الأرض، وانتصرنا في المعارك. وتكرَّر ذلك الأمر حتى تشابهت عليَّ مشاهد المعارك، وهو شعور ليس بغريب على مَن خدم عسكريا، حيث تشاهد الأشخاص أنفسهم، وتتبع الجدول نفسه، وتقوم بالأنشطة نفسها يوما بعد يوم.



بيد أن الأمر لم يختلط عليّ في الحقيقة. لقد كنا نطير بالفعل لنُنفِّذ المهام نفسها، وفي المواقع نفسها، ونُعيد تحرير القرى نفسها التي قاتلنا فيها قبل ثلاث سنوات، وصرت أستمع إلى الأحاديث والحماسات والهراء والتخطيط نفسه، وأحيانا إلى الرجال أنفسهم الذين سمعت أصواتهم من قبل.
في إحدى المهام، قدَّمنا الدعم لطاقم على الأرض كان قد ذهب لزيارة قرية صغيرة والتحدُّث مع كبيرها، وذلك من أجل مشروع لحفر بئر بجوار القرية. وقد طُفنا بالطائرة فوق رؤوسهم لبضع ساعات ولم يحدُث شيء لافت للانتباه، ولم يقُم أحدهم بأي نشاط مُثير للريبة على الأرض، ولم يتحدث أيٌّ منهم أيضا عن أي موضوع ذي صلة بالقتال عبر الراديو. تكلَّل الاجتماع بالنجاح، وما إن بدأ الطاقم يعود إلى المروحيات حتى هجمت طالبان فجأة.
"اصعدوا بسرعة. إنهم يتحرَّكون شرقا ويركضون. أسرعوا". جلس طاقمنا على الأرض وانتظر حتى تكون المروحيات بأمان أثناء الإقلاع. "أين هُم؟ ماذا يفعلون؟ تبا لقد أُصبت!". أدرك مقاتلو طالبان أنهم أصابوا قائد الطاقم، وعرفت ذلك لأنني سمعت احتفالهم يتداخل مع صرخاته. "لقد أصبت واحدا يا أخي. استمر وواصل إطلاق النار. بوسعنا أن نُصيب أكثر. نعم، سنفعل، إن الرشاش…".
توقف الاحتفال فجأة، إذ أصابتهم طائرتنا من أعلى. كان أسوأ يوم في حياتي، وليس الرصاص أو الصرخات أو الموت هو ما أفسد يومي، فقد اعتدت عليها جميعا آنذاك. بيد أنني في ذلك اليوم فهمت أخيرا ما حاولت طالبان أن تُخبرني إياه طوال الوقت. في كل مهمة حلَّقت فيها فوقهم، واسترقت السمع لكل كلمة يتفوَّهون بها، كانوا يعلمون بأني أسمعهم، يتفاخرون بأعداد الأميركيين الذين قتلوهم، وأعداد مدافع الـ "آر بي جيه" التي تحصَّلوا عليها، وأين ومتى سيزرعون عبوة ناسفة جديدة. لكن في خضم كل ما سمعته، لم أكن أسمع جيدا ما يجب سماعه.
رسالة خفية
لقد فهمت أخيرا، كل ذلك الهراء لم يكن للمرح، بل كان طريقتهم للترويح عن أنفسهم من الملل من معركة جديدة على الأرض نفسها ضد قوة غازية أخرى. ولكن على العكس مني، ذهب مقاتلو طالبان إلى بيوتهم في الأخير، التي وقعت غالبا في قرية مجاورة، وليس على بُعد آلاف الكيلومترات. أما أولئك المزارعون في الحقل المذكور آنفا، فهُم ربما مزارعون ليس إلا، أو لعلهم أخفوا ما يخُص هجماتهم. في كلتا الحالتين، فإن قنابلنا ورصاصاتنا تعني أن احتمال انضمام صبيان قريتهم الآن إلى طالبان أكبر بكثير.
وماذا عن الأحاديث الحماسية؟ لم تكن محض خطابة جوفاء، بل نبوءات سرعان ما تحقَّقت. حين كان الجو باردا على الجهاد، فإن العبوات الناسفة ظلَّت تُزرع. وحين حملوا بنادق الكلاشينكوف ذات الثلاثين عاما في مواجهتنا نحن بطائرات تفوق قيمتها مئة مليون دولار، فإنهم ظلَّوا يقاتلون. وحين تركنا قرية، فإنهم عادوا لاسترجاعها. مهما فعلنا، وأينما ذهبنا، ومهما بلغت أعداد مَن قتلناهم منهم، فإنهم عادوا من جديد.
بعد عشر سنوات على آخر مرة خدمت فيها، وعشرين سنة على حربها مع الجيش الأكثر تقدُّما وثراء في العالم، استعادت طالبان أفغانستان. وكما هو واضح، فإن أيَّ أوهامٍ حيال احتمالية ألا يحدث ذلك أو الوقت الذي سيستغرقه إن حدث، سرعان ما تبدَّدت حالما سقطت قوات الأمن الأفغانية على يد طالبان في أسبوع واحد فقط. أما إنجازاتنا القليلة فيما يتعلَّق بحقوق المرأة والتعليم والفقر، فمصيرها أن تُمحى، مثلها مثل أي بارقة ديمقراطية في البلاد. ورُغم أن "السلام" قد يعُم البلاد، فإنه سيعود فقط بعد أن تنجح طالبان في القضاء على أي معارضة لها أو قتلها.
لقد أخبرتنا طالبان بذلك بالفعل، أو أخبرتني أنا على الأقل، أخبرني مقاتلوها عن خططهم وآمالهم وأحلامهم، وحدَّثوني بالتفصيل عن الكيفية التي سيُحقِّقون بها أهدافهم، وأن أحدا لا يمكنه أن يوقفهم، وقالوا إنهم وإن ماتوا، يثقون في إخوان لهم يكملون مسيرتهم، وأنا على يقين بأنهم سيُواصلون مهمتهم تلك إلى الأبد. أخبروني أيضا كيف خطَّطوا للاستمرار في قتل الأميركيين، وبأي سلاح، وفي أي مكان، وأي عدد سيقتلون. وأحيانا قالوا لي تلك الأشياء وهُم يقتلون أميركيين بالفعل. أخبروني كذلك أن العالم سيُصنع على صورتهم "بمشيئة الله"، وحدَّثوني عمَّا رفض الكثيرون أن يسمعوه، لكنني فهمته في نهاية المطاف: أفغانستان لهم.


_______________________________
ترجمة: نور خيري
هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر : الجزيرة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *