انتقل الى رحمة الله وعفوه الشيخ العلامة أبو محمد عبد الرحمن بن صالح محي الدين وسط حزن كبير في الوسط العلمي.
اسمه ونسبه : فهو أبو محمد عبد الرحمن بن صالح آل محي الدين بن محمد ضياء الدين بن عبدالرحيم آل مخدوم المخدومي .
وُلِدَ رحمه الله في حي ( التاجوري ) بالمدينة النبوية في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب سنة ( 1365 هـ ) , وحي التاجوري كان حياً شعبياً من أحياء المدينة القديمة يقع في المنطقة الواقعة إلى جهة الغرب من مبني المحكمة الشرعية جنوبَ المسجد النبوي , أُزيل هذا الحي مع توسعة المسجد النبوي , ثم انتقلت أسرة الشيخ إلى حي باب المجيدي شمال المسجد النبوي, وفي هذا الحي نشأ وترعرع , ودخل في حداثته ( كُتاباً ) في مسجد (مالك بن سنان) المعروف بـ مسجد سيدي مالك . ثم تحوَّل إلى دراسة القرآن بالمسجد النبوي الشريف . ثم التحق بمدرسة النجاح الابتدائية , ثم تحوَّل منها إلى المدرسة الفهدية الابتدائية , وهذه المدرسة تقع عند (بيرحاء) الموضع المعروف في السنة النبوية . وقد ذهبت كلها في توسعة المسجد النبوي . بل جميع حي باب المجيدي الذي نشأ فيه الشيخ, ذهب مع التوسعة المذكورة . ثم انتقل الشيخ إلى المدرسة العسكرية برغبةٍ من والده , وبقي فيها إلى المرحلة المتوسطة , بيد أنه لم يرغب في الاستمرار فيها , لأنه آثر طلب العلم على المجال العسكري.
ويقول رحمه الله عن زملائه في المدرسة العسكرية أنهم بلغوا رتباً عالية , منهم من وصل إلى رتبة لواء , ولقد أراد الله به خيراً , حيث انتقل الشيخ إلى الدراسة في دار الحديث المدنية , وكان مدير الدار آنذاك هو الشيخ العلامة المحدث عمر بن محمد فلاته رحمه الله , غير أن الشيخ لم يُكمل دراسته في دار الحديث , بل تحوَّل إلى معهد إعداد المعلمين , وتخرج فيه , وعُين مدرساً في وزارة المعارف ( التربية والتعليم ) مدة خمس سنوات , وكان الشيخ في هذه الأثناء يطلب العلم في المسجد النبوي . فتاقت نفسه إلى الدراسة بالجامعة الإسلامية وكان رئيس الجامعة هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله , وكانت الجامعة لا تقبل شهادة معهد إعداد المعلمين لأسباب إدارية , بل تشترط شهادة الثانوية العامة لمن يرغب في الدراسة فيها , ما دفع الشيخ إلى الدراسة في الثانوية العامة , فكان يُدرِّس نهاراً , ويَدرس في المدرسة الثانوية ليلاً , مدة ثلاث سنوات , حتى أكمل دراسته الثانوية والتحق بالجامعة الإسلامية في كلية الشريعة , وسألت الشيخ عن زملائه في الجامعة فذكر لي الشيخ على عبدالله جابر القاريء الشهير رحمه الله .
تخرج رحمه الله في الجامعة الإسلامية سنة ( 1396 هـ ) فعُين معيداً فيها في كلية اللغة العربية فكان يدرس فيها شرح العقيدة الطحاوية , ثم انتقل بعد عامين إلى كلية الشريعة , وبقي فيها معيداً ثم محاضراً ثم استاذاً مساعداً إلى سنة ( 1416 هـ ) , ثم انتقل إلى كلية الحديث الشريف رئيساً لقسم فقه السنة إلى أن أحيل إلى التقاعد سنة ( 1425 هـ ) وقد وصل الشيخ إلى درجة أستاذ مشارك في الحديث وعلومه .
أما شيوخه : فقد تلقى الشيخ عبدالرحمن العلمَ على مجموعة كبيرة من العلماء ؛ منهم الشيخ الإمام محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله , صاحب ( أضواء البيان ) , درس عليه بالمسجد النبوي وسجَّل له بعض الأشرطة السمعية , وقد سألت شيخنا إن كانت هذه الأشرطة محفوظة عنده ؟ فقال : نعم .
ودرس على سماحة الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله , في كتاب التوحيد بالمسجد النبوي , ودرس أصول الفقه على الشيخ عطية محمد سالم , ودرس على الشيخ المحدث عمربن محمد فلاته , وكان من أكثر العلماء تأثيراً في شخصية شيخنا الشيخ عبدالرحمن من حيث التمسك بالعقيدة السلفية ونبذ البدع والخرافات واتباع منهج السلف الصالح , ودرس على الشيخ أبي بكر الجزائري , في التفسير وغيره , وتأثر بإسلوبه التربوي في الوعظ والتذكير , ودرس على الشيخ عثمان بن على الذوادي في علم الفرائض فأتقنه , حتى صار شيخنا من مدرسي الفرائض ومن قَسَمَة الميراث في المدينة النبوية , ودرس على الشيخ العلامة أبي بكر التنبكتي بالمسجد النبوي في كتب العقيدة السلفية ومنها كتاب التوحيد , وعلى الشيخ العلامة عمار الأزعر الجزائري , في صحيح البخاري , ودرس الحديث الشريف على العلامة المحدث الشيخ حماد الأنصاري ولا سيما في سنن الترمذي وشرحه تحفة الأحوذي , في المسجد النبوي , وتأثر بالشيخ حماد في العناية بالعلم والاستقصاء في بحث المسائل , ودرس شيخنا على علماء آخرين في الجامعة الإسلامية في كلية الشريعة وفي مرحلة الدراسات العليا , في العقيدة والتفسير والحديث والفقه واللغة العربية . منهم الشيخ العلامة السلفي شوكة أهل البدع شيخنا الشيخ محمد أمان بن علي الجامي رحمه الله , وذكرلي شيخنا الشيخ عبدالرحمن : أن الشيخ محمد أمان من خيرة مَن درَّسه , ومن خيرة المشايخ أدباً وسلوكاً وخلقاً وتواضعاً وعلماً , وأن الحرب التى يشنها عليه أعداء السنة هي حرب مبنية على الأهواء وليست حرباً مبنية على أساس شرعي ولا علمي , ولقد بلغ من تواضع الشيخ محمد أمان رحمه الله أنه اختلف هو والشيخ عبدالرحمن في مسألة علمية فتحاكما إلى الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز , فظهر أن الصواب مع الشيخ عبدالرحمن , فاعتذر الشيخ محمد أمان لتلميذه الشيخ عبدالرحمن وأذعن للحق . ومن العلماء الذين تلقى عنهم شيخنا الشيخ عبدالرحمن : الشيخ عبدالرؤف اللُّبدي وكان ضليعاً في علم النحو , والدكتور البحاثة أكرم ضياء العمري , والشيخ محمد أمين المصري , والشيخ محمود الطحان , والشيخ محمود الميرة وكان مشرفاً عليه في رسالة الماجستير , والشيخ السيد الحكيم , وكان مشرفاً عليه في رسالة الدكتوراه .
أما نشاطه في الدعوة إلى الله , فقلَّ نظيره في هذا المجال , فقد حببَّ الله إلى نفسه العلم وطلبه منذ نعومة أظفاره , وحفزه ذلك إلى إلقاء الخطب والمواعظ في عهد مبكر من حياته المباركة , بل كان ينوب شيخه الشيخ أبا بكر الجزائري في التدريس على كرسيه بالمسجد النبوي, وهو شاب لم يبلغ الأربعين من عمره .
يقول الشيخ في ترجمته التي كتبها بنفسه : وحبب الله إليَّ العلم وتعليمه , فهو أحب شيء إلى نفسي ؛ وذلك أنه يقرب إلى الله , فكلما ازداد العبد علماً نافعاً ازداد معرفة بالله وقرباً منه . وصدق الله عز وجلَّ حيث يقول : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل العلم والعلماء . ا.هـ
ولقد طاف رحمه الله البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في الدعوة إلى الله وإقامة المحاضرات وإلقاء الخطب والكلمات , وشارك في دورات علمية داخل المملكة وخارجها , وهو الآن متفرغ للدعوة بعد تقاعده من التدريس في الجامعة الإسلامية , وعند الشيخ – رحمه الله- من الحماسة والهمة في الدعوة إلى الله ما يفتقده كثير من الشباب المتعلمين , هذا, وللشيخ أسلوبه الشيق السلس المحبب إلى النفوس , وهو في دعوته يُعنى كثيراً بالعقيدة السلفية التى تلقَّاها عن شيوخه , ويُعنى بالسنة النبوية , وبالاتباع للمنهج السلفي , وبالتحذير من البدع والجماعات الحزبية والتعصب للمذاهب , كما يُعنى بمكارم الأخلاق وتهذيب النفوس , وتوجيه طلبة العلم إلى العمل بالعلم وتعليمه للناس واحترام العلماء , ولا زلت أذكر تلك الكلمات النافعة والتوجيهات المفيدة التي كان يلقيها شيخنا في مسجد كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية عقب صلاة الظهر , ومع أني كنت طالباً في كلية الحديث إلا أني كنت أتقصد الصلاة في مسجد كلية الشريعة لأستمع إلى كلمة شيخنا حفظه الله .
أما مؤلفات الشيخ عبدالرحمن , فهي عدة مؤلفات , معظمها رسائل , فكتب رسالة في العقيدة الصحيحة , ورسالة في الحجاب , ورسالة في شرح كتاب الاعتصام من صحيح البخاري , ورسالة في شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري , ورسالة في الفرائض , ورسالة في وضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع , ورسالة في شرح حديث ” اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا ” , ورسالة في الجرح والتعديل , ورسالة في التعريف بالأئمة الستة وكتبهم , ورسالة في جهود المملكة في خدمة الإسلام والمسلمين , ورسالة في دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب , وشرح أصول السنة للإمام أحمد , وشرح فضل الإسلام للإمام محمد بن عبدالوهاب , ورسالة الماجستير في الأحاديث التى حسَّنها أبو عيسى الترمذي وانفرد بها , ورسالة الدكتوراه في تحقيق الجزء الأول من شرح سنن الترمذي لابن سيد الناس , وفي الترقية تحقيق كتاب أجوبة ابن أيبك الحسامي للحافظ ابن سيد الناس ,
كما ألف رحمه الله ردوداً على بعض أهل البدع والخرافات , وعلى بعض الزائغين , منها كتابٌ سمَّاهُ : تنبيه ذوي العقول والبيان فيما وقع فيه عمرو عبدالمنعم من الضلال والخذلان في إباحته أدبار النسوان .
وهذه المؤلفات بعضها طبع , وبعضها في طريقه على الطباعة .
ويقول رحمه الله عن شيوخه : كثرٌ جداً , من جميع أنحاء العالم الإسلامي , فقد بقي الشيخ عبدالرحمن نحواً من ثلاثين سنة مدرساً في كليات الجامعة الإسلامية , تتلمذ عليه في هذه المدة المئات من طلاب العلم , وقد نسي أسماء الأكثرين منهم , ومعظم الأساتذة اليوم بالجامعة الإسلامية هم من تلاميذه , منهم : الشيخ الدكتور سليمان الرحيلي , والشيخ الدكتور عبدالسلام السحيمي , والشيخ الدكتور محمد بن هادي المدخلي , والشيخ الدكتورعلى التويجري , والشيخ الدكتور ترحيب الدوسري , والشيخ الدكتور مسعد الحسيني …
رحم الله الشيخ المربي عبدالرحمن بن صالح محي الدين وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين

Comments
Post a Comment