-->

السنة 51 من عمر الثورة

 


بسم الله الرحمن الرحيم
السنة 51 من عمر الثورة
خمسون عاما مرت منذ ذلك اليوم الأغر من العام 1973 الذي أعلن فيه شعبنا المكافح قيام ثورته العظيمة، يوم تفتقت عبقرية مجموعة من جيل صحراوي رفض الذل والمهانة وهيمنة الاستعمار الأجنبي، بزعامة شاب عبقري فذ، هو الشهيد البطل الولي مصطفى السيد، وبادروا إلى تأسيس حركة سياسية ـ الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، التي ستشتهر باسم جبهة البوليساريو ـ في العاشر من شهر مايو/ أيار، ثم أعلنوا بدء الكفاح المسلح في غضون العشرة أيام اللاحقة أي في الـ 20 من نفس الشهر.
خمسة عقود مرت منذ ذلك اليوم إلى الآن، وها نحن تجاوزنا أو نكاد أن نتجاوز السداسي الأول من العقد السادس من عمر الثورة، مستمرون في كفاحنا متمسكون بالعهد، منا من قضى نحبه ومنا من ينتظر ولم نبدل، ما زال شعارنا هو بالبندقية ننال الحرية، وكل الوطن أو الشهادة، وتصعيد القتال لطرد الاحتلال واستكمال السيادة، ولكن كذلك منضوين تحت لواء الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب كممثل شرعي وحيد لشعبنا.
هذا السداسي أو بداية العام 51 من عمر ثورتنا المجيدة يتميز بكونه بداية لمرحلة لها خصوصيات كثيرة تستدعي التوقف عندها لفهمها بكل أبعادها أولاً، ولاستحضار وتذكّر أسس مقومات صمودنا ثانيا، وللبحث عن سبل تصعيد كفاحنا وقتالنا ضد مُحتل أرضنا.
سمات المرحلة: 
1ـ سيطرة الأحداث العنيفة والحروب على المشهد السياسي الدولي في هذه المرحلة، في تفاعل معبر عن نوع من رفض الاستعمار، ووجه من أوجه التمرد على طغيان واستبداد نظام عالمي أحادي القطب وتجبره ضد كل من يحاول أن يرفع رأسه، بتسليط سيف العقوبات والحصار، أو بالغزو العسكري والاحتلال، بعد أن تتم شيطنته وإلصاق به كل النعوت السيئة والصفات المنفرة. 
تواتر المؤشرات على أن النظام الذي طالما جذب الناس بشعاراته البراقة وبفلسفته المخادعة، بدأ يترنح ويتلقى الضربات، بعد أن انكشف غشه وخداعه، ولم يبق لديه ما يصدّره للعالم سوى المثلية، نظام كسدت بضاعته وتهاوت كل ادعاءاته حول "العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان"، وتبين زيفها، إذ وقف العالم على أنها قيّم موقوفة عليهم ـ أي الغربيين ـ دون غيرهم من الشعوب والبلدان، وإذا كانت حرب أوكرانيا أبانت عن جزء من حقيقة تلك الخديعة الكبرى، فإن ما جرى ويجري في غزة اليوم أكمل المشهد بصورة أدهى وأمر.
 وقد عشنا نحن الصحراويين ظلم وانحياز الغرب وما يسمى النظام العالمي ضد الحق ـ ضدنا ـ في كل مراحل تاريخنا المعاصر مثلما عانينا ونعاني من ظلم ذوي القربى وتحاملهم علينا، لكن صمودنا المستمد من إرادة شعبنا الفولاذية وإيمانه بالحق وقدرته على هزيمة الباطل ونسف كل الخطط الشريرة التي استهدفت وتستهدف شعبنا وقضيته العادلة.
2 ـ مرحلة مخاض وتجاذب قوي بين قوى مسيطرة آيلة للانهزام واخرى صاعدة لم تتحدد قيادتها بعد أو لم تستكمل كل عوامل السيطرة ليتم التسليم لها، مما يجعلها مرحلة ترقّب بامتياز، يصعب الاختيار بين معسكريها، حيث ما زال طرفا الصراع فيها غير قادرين على حسم معركة الزعامة: فلا الغرب بقادر على مواصلة قيادة العالم لأنه لا مشروع إنساني لديه، إضافة إلى ما تعانيه أدواته من اختلال ووهن حيث نراه يحاول يائسا التمسك بمناطق نفوذ كانت تبعيتها وخضوعها له إلى الأمس القريب أمرا غير قابل للنقاش (حالة فرنسا في غرب إفريقيا والولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، وقبلها الخروج من أفغانستان، وتوقيع اتفاق إيران والسعودية...إلخ). بينما نجد الطرف المناوئ للغرب أو المنافس له (سمه الصين أو روسيا الاتحادية أو هما معا أو مجموعة لبريكس)، يتخبط في مشاكله الخاصة ورؤاه المنغلقة التي تعيق مطامحه في الزعامة، وما زالوا غير قادرين على تقديم مشروع بديل مقنع يجعل العالم ينخرط معهم أو ينضوي تحت مظلتهم.
2 ـ مرحلة البحث عن التحالفات ومد جسور العلاقات خاصة على مستوى الأنداد أو المتقاربين سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل المنظور.
3 ـ مرحلة تحمل في طياتها كل طغيان ووقاحة ما يسمى البراغماتية ووحشية رأس المال، وهي سمات مستمدة من التراكمات الَسابقة، التي جعلت العنوان الرئيسي والمحتوى الأبرز بل والمحرك الأول هو المصالح المباشرة، التي تعني المتاجرة بكل شيء، ولتحقيق ذلك يتم الدوس على الدين وعلى المبادئ وعلى الأخلاق، بل على كل شيء.
5 ـ عودة بروز دور المقاومة كرقم لا يمكن تجاوزه في معادلة الصراع الدولي في هذه المرحلة.
هذه من أهم سمات المرحلة، فكيف إذاً نتزود منها لخلق عوامل صمود تتجدد؟
تجربتنا غنية في التعاطي مع الظروف المختلفة سواء منها ما هو في صالحنا أو ما هو غير ذلك، وأول خلاصة تبرز في كل التحاليل وفي جميع المراحل هي أن قوتنا الذاتية هي العامل الحاسم في تجاوز الصعاب والتغلب على المعوقات وتحقيق النصر.
وللتذكير فقط، انطلقنا من فكرة الإيمان بما هو حتمي أن يقع، وفعلا من عايش منا تلك المراحل وتلك المصاعب، رأى بأم عينه كيف تغلبنا على قلّتنا العددية، وجهْلنا وتشرذمنا والحصار المضروب علينا، وكيف أوجدنا الإمكانيات وأقنعنا الحلفاء وفاوضنا الأعداء والأهم كيف انتزعنا ثقة شعبنا وحققنا وحدته والتفافه حول طليعته الثورية الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
هذا في مرحلة البداية وانطلاق الكفاح المسلح ضد المستعمر الإسباني، أما المرحلة اللاحقة، فهي لمن يتذكر مرحلة المعجزة، كيف تصدى شعبنا للغزو من الشمال ومن الجنوب؟ وكيف صمد وصبر ورابط وانتصر؟ ليس فقط بالمواجهة العسكرية، وإنما ببناء دولته بمؤسساتها التي نستظل بها اليوم، وربى الأجيال التي تلاحقت على درب الكفاح، واخترق حجب الأفق وبنى علاقات دولية أوصلت القضية إلى طاولة أكبر هيئة عالمية اليوم (مجلس الأمن الدولي)، وحولت النظام المخزني إلى متسوّل مواقف، يرشى هنا، ويكذب هناك، ويزوّر في مكان ثالث.
في هذه المرحلة بالذات التي أوجزنا بعضا من سماتها، لا بد من استحضار عاملين اثنين وإبقائهما ماثلين أمام أعيننا:
الأول، الغاية التي أعلنا الثورة من أجلها، والتي هي مبرر وجودنا كحركة تحرير، لأننا أعلنا لشعبنا وللعالم أننا نحن: الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، وأسطر تحت كلمة تحرير، وقدم شعبنا قوافل الشهداء ـ من أبنائه وبناته ـ في ذلك السبيل.
 الثاني، أنه منذ البداية تم التأكيد على أنها ثورة شعبية طويلة الأمد، وأن حربها ليس لها من ضامن سوى الجماهير المؤمنة بتحرير الوطن، كما يقول شعارنا الخالد: "حرب التحرير تضمنها الجماهير".
من هاتين الحقيقتين نبدأ بالتزود لمواجهة صعوبات المرحلة، جاعلين من سلاح الإيمان بعدالة وشرعية ثورتنا والتمسك بحقنا الثابت في الوجود معينا يمدنا بقوة التحمل والمثابرة، لأننا كما يقول مثلنا القديم "الل اكبرت بيه لا تكبر عنو"، من جهة أخرى، مرت بنا بعض الصعوبات التي لا تنسى في المرحلة الأولى من الحرب، قد يكون من المفيد التذكير بمثال أو اثنين منها، كمواجهة الطيران الفرنسي ـ جاغوار ـ وما سبب لنا من خسائر، والأربع سنوات الأولى من تحدي الجدران الدفاعية المغربية، ونتذكر كيف صمدنا؟ وكيف تغلبنا عليها؟ وهي تجارب تؤكد أن سر انتصارنا بل وجوهره هو وحدتنا وإيماننا بأهداف ثورتنا، وقوة تشبثنا بالدفاع عن حقنا والتفافنا حول جبهتنا، لأننا في الحالة الأولى ـ جاغوار ـ لم تكن لدينا وسائل دفاع جوي قادرة على مواجهة ذلك النوع من المقاتلات في ذلك الوقت، وفي الحالة الثانية ـ الجدران المغربية ـ لم نكن نمتلك الخبرة في محاربة وتحدي تلك الدفاعات ونظمها المركبة، ولكن المقاتل لم يكل ولم يمل من محاولة اختراقها وتنويع الأساليب وابتكار أخرى جديدة إلى أن تمكن من تفكيكها وتحويلها إلى عالة على المحتمين بها. 
أما بقية الزاد الذي تحتاجه المرحلة فالأكيد أن معظمه محدد وموجود في مقررات المؤتمر السادس عشر للجبهة بدءا بشعاره العام وانتهاء ببرنامج العمل الوطني. دون إغفال ما يستجد من متطلبات المعركة في مختلف جوانبها وضرورة توفيرها في الزمان والمكان المناسبين.
خاتمة: ما تجدر الإشارة إليه هو أنه في هذه المرحلة التي عاد فيها عنصر المقاومة لفرض وجوده على الساحة الدولية، برزت هشاشة ووهن من يحتمي به المخزن، خاصة الكيان الصهيوني، إذ أثبتت المقاومة الفلسطينية أنه لا الرادارات، ولا الجدران الذكية، ولا قبب الحديد، ولا كثافة الدعاية، ولا قوة الحلفاء وقدرتهم على انتاج وسائل الدمار، تجدي أمام إرادة شعب مصمم على انتزاع حقه وإلحاق الضرر بإعدائه.
كما فاح تعفن نظام المخزن المراكشي واهترائه، حيث أفسد على أسياده لعبتهم من الداخل بالرشاوي والتجسس على بعضهم والتعنت وضرب قوانينهم وشرعيتهم التي يسمونها "دولية" عرض الحائط، وأفقد كبريات مؤسساتهم ـ البرلمان الأوروبي، محكمة العدل الأوروبية، مفوضية الاتحاد الأوروبي ـ بل حكومات منتخبة وحتى مجلس الأمن وهيئات حقوق الإنسان ـ أفقدهم جميعا المصداقية، وأظهر أن الكل خاضع للابتزاز والرشوة والفساد، يحركه جهاز مخابرات دولة من دول العالم الثالث.
وهذين العنصرين اللذين يمكن إضافتها إلى مميزات المرحلة وإلى معين زادنا للمزيد من الصمود والمقاومة، يمكن جعلهما منطلقا لبدء هجوم كاسح في جميع مناحي الكفاح على مستوى جبهاته الرئيسية العسكرية والسياسية والدبلوماسية وعلى مستوى الأرض المحتلة، يعيد لنا روح وفعل هجمات سابقة كهجمة "هواري بومدين" ومعاركها ليس القتالية وحدها وإنما على كل الصعد. 
تصعيد القتال لطرد الاحتلال واستكمال السيادة
مصطفى الكتّاب
3 ديسمبر 2023

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *