“المطبخ العالمي” لمجلس الأمن: ألم تقتل إسرائيل أكثر من 14 ألف طفل على هذا النحو؟
قرر أحد المستويات في الجيش أن يهاجم قافلة للمساعدات الدولية بالصواريخ، للاشتباه بأن شخصاً مسلحاً في سافر فيها في مرحلة ما، هذا ما نشره المراسل العسكري في “هآرتس” ينيف كوفوفيتش، بعد بضع ساعات على معرفة أن صواريخ مسيرة إسرائيلية قتلت سبعة من عاملي منظمة الإغاثة “المطبخ المركزي العالمي”. تصعب المبالغة في خطورة قرار إطلاق النار عليهم وحجم وجع الرأي الذي تسبب فيه مشغلو المسيرة سواء للجيش الإسرائيلي أو للدعاية الإسرائيلية. وجع الرأس هذا الذي لم يكن ليصيبهم لو أن القتلى السبعة كانوا من الفلسطينيين وليسوا مواطني دول غربية. ادعت إسرائيل في السابق عدة مرات بأن حماس تختبئ وراء المدنيين، لذلك فمسؤولية قتلهم ملقاة عليها. في مثل هذه الحالة، حتى رئيس الحكومة نتنياهو لم يكن ليسارع عن التعبير عن الأسف والقول بأن قواتنا “قتلت بدون قصد” أشخاصاً أبرياء.
لن يستطيع الإعلام الإسرائيلي تبرير الهجوم أو طمس خطورته بسبب هوية القتلى، وأيضاً بسبب أهمية المطبخ المركزي العالمي في عملية تدفع إسرائيل بها قدماً منذ بضعة أشهر، وهي تقليص نشاطات وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين “الأونروا” المخضرمة، إلى درجة إخفاءها، وذلك عندما تفشت أبعاد الجوع وسوء التغذية في القطاع، لا سيما في الشمال، ووصلت إلى أبعاد غير مسبوقة، وفي الوقت الذي تتوقع فيه محكمة العدل الدولية من إسرائيل ضمان وصول المساعدات الإنسانية للسكان.
المطبخ المركزي العالمي هو اللاعب الرئيسي الذي يعمل في المسار البحري لنقل الغذاء إلى شمال القطاع. هذا مسار تبنته الولايات المتحدة ودفعته قدماً وسوقته بعد أن رفضت إسرائيل طلبات منظمات الإغاثة المخضرمة السماح بالمسار البري القصير، السريع والرخيص؛ أي إدخال شاحنات الغذاء وتزويد القطاع بشكل مباشر، وهكذا تجنب السفر الخطير في معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم.
الإرسالية البحرية الأولى التي نظمها “المطبخ” بتمويل من الإمارات وصلت إلى القطاع بداية آذار. الإرسالية الثانية بتمويل الإمارات أيضاً، وصلت الإثنين أمام شاطئ مدينة غزة. ولكن من بين الـ 400 طن من المواد الغذائية والمعدات، التي تقدر بمليون وجبة، أنزل العمال 100 طن فقط. والآن، بسبب الهجوم وقرار المنظمة تجميد نشاطاتها في القطاع، ستعود السفن مع حمولتها إلى قبرص.
في هذه الأثناء، حجم المساعدات الإنسانية لا يتعدى الحد الأدنى من المطلوب، الذي يساوي 500 شاحنة يومياً. المتوسط اليومي في شهر آذار كان 159 شاحنة فقط، حسب ما نشرت الأمم المتحدة. العدد الأعلى كان في 28 آذار، 264 شاحنة. أصبحت الفحوصات الأمنية طويلة، في حين أن الشاحنات تنتظر الدور لبضعة أيام. جزء صغير من الحمولة يصل إلى شمال القطاع بسبب تعقد التنسيق مع الجيش الإسرائيلي والتأخير في الحواجز داخل القطاع وإطلاق النار من قبل الجيش والخطر من عصابات منظمة. وما دام المسار البحري لـ “المطبخ” آمناً، كان يمكن طمس الصعوبات التي تواجهها منظمات الإغاثة المخضرمة في الوصول إلى شمال القطاع. قتل المتطوعين الشجعان في منظمة “المطبخ” يمس بجهود إسرائيل بإظهار أنها تلتزم بتعليمات محكمة العدل الدولية.
حتى قبل التجربة البحرية، فإن المطبخ المركزي العالمي، الذي لم يكن معروفاً للفلسطينيين حتى هذه الحرب، بدأت تظهر في القطاع. منذ تشرين الأول 2023 وفر أكثر من 35 مليون وجبة ساخنة وأقام أكثر من 60 مطبخاً مجتمعياً. لاحظ الناس وجود غاز للطهي في مطابخه، الذي لم يكن متوفراً لمنظمات أخرى، وأنه يقدم الخضراوات الطازجة في وقت لم تتوفر في الأسواق أو أن سعرها كان مرتفعاً جداً. قال مصدر في جهاز الإغاثة غير الحكومي بأن هذه المنظمة بدأت بين عشية وضحاها في تشغيل جهاز يساوي حجم الأونروا المخضرمة، وتشير سرعة نشاطاته إلى خطوات بيروقراطية إسرائيلية سهلت العملية، أي أن من شغلوا المسيرة تسببوا بضرر لمنظمة كانت نشاطاتها مهمة لإسرائيل، ليس لأسباب إنسانية فقط بل أيضاً من ناحية سياسية، في إطار هدف محو الأونروا من الخارطة.
كأي منظمة إغاثة أخرى تعمل في القطاع في فترة الحرب، نسق المطبخ المركزي العالمي نشاطاته مسبقاً مع الجيش. ومثلما في منظمات أخرى، فإن موقع أي منشأة له معروف للجيش، وتعلو سياراته أعلام وإشارات، ويرتدي العاملون فيه الستر الواقية مع إشارات خاصة، هويتهم معروفة لقوات الجيش التي صادقت على كل واحد منهم. وسفر أي سيارة أو قافلة بحاجة إلى مصادقة إسرائيل. باللغة العسكرية وباللغة التنظيمية الإنسانية، هذا يسمى عملية “منع الاحتكاك”.
أعلنت إسرائيل في بداية كانون الأول عن إقامة آلية لـ “منع الاحتكاك” تهدف إلى حماية عاملي الإغاثة والمدنيين عقب طلب صريح لأمريكا طرحه ديفيد ساترفيلد، المبعوث الأمريكي الخاص للشؤون الإنسانية. ممثلو منظمات الإغاثة يبلغون رجال الاتصال عن تحركاتهم، الذين هم في مكتب منسق أعمال الحكومة في” المناطق”، الذين بدورهم ينسقون مع قوات الجيش الموجودة في المنطقة.
ليست هذه الحالة الأولى منذ بداية الحرب التي يهاجم فيها الجيش سيارات ومنشآت تعود لمنظمات إغاثة، محلية ودولية. وحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإنه ليس أقل من 196 عاملاً إنسانياً قتلوا منذ بداية الحرب. ستة من الفلسطينيين المرتبطين بـ “أطباء بلا حدود”، وعاملون وأبناء عائلاتهم، من بينهم طبيبان وطفلة، قتلوا بنار الجيش الإسرائيلي. وثمة سيارة للمنظمة أصيبت بنار الجيش، وقد أصيب عدد من الفلسطينيين الذين كانوا في مبنى المنظمة البريطانية “ام.إي.بي” (مساعدة طبية لفلسطين)، و15 من العاملين في طواقم الإنقاذ التابعين للهلال الأحمر قتلوا بنار إسرائيلية وهم في طريقهم لإنقاذ مصابين. أطلق الجيش الإسرائيلي النار 16 مرة على الأقل على الشاحنات التي نقلت الغذاء والأشخاص الذين تجمعوا حولها، سواء لأن من كانوا يحمون الشاحنات اعتبروا من حماس أو بسبب خوف الجنود الموجودين في الدبابة. وهذا ما جرى في الحادثة التي أطلق فيها طاقم دبابة النار على تجمع من الأشخاص الذين انقضوا على قافلة غذاء في 29 شباط الماضي، الحادثة التي قتل فيها 100 شخص تقريباً. وعندما لا يفضي إطلاق النار على قافلة غذاء إلى موت، فإنه يردع سائقي قيادة الشاحنات، مثلما حدث بعد إطلاق سفينة حربية لقذيفة في 6 شباط على قافلة إغاثة تابعة للأمم المتحدة أثناء سفرها إلى شمال القطاع.
إن قتل عاملي المطبخ المركزي في هجوم لا يعتبر الأول من نوعه، يظهر ثلاثة أسس حول طبيعة نشاطات الجيش الإسرائيلي في غزة: الأول، عدم التنسيق بين القوات المختلفة رغم التصريح عكس ذلك. الثاني، المستوى المتدني نسبياً الذي أعطي صلاحية فورية للقتل من الجو. والثالث، المرونة الكبيرة في تقدير الضرر الجانبي الذي يسمح الجيش الإسرائيلي لنفسه به، أي العدد المرتفع جداً من غير المقاتلين ومن غير المسلحين، من بينهم أطفال، المسموح قتلهم من أجل المس بـ “هدف شرعي واحد”. يتبين في حادثة أمس، أن الاشتباه بـ “شخص مسلح” (حتى الآن لا نعرف هويته) كان يكفي للسماح لمشغل المسيرة العسكرية بقتل سبعة أشخاص غير مشبوهين وغير مسلحين. هذا الإطلاق السهل هو أحد التفسيرات بأن نحو 14 ألف طفل في غزة قتلوا حتى الآن، حسب معطيات “اليونيسف”.
عميره هاس
هآرتس 3/4/2024