على اقدام العزة : ميلاد على درب النزوح
قصة واقعية لنسوة نزحن مشيًا على الأقدام، بينهما امرأة حامل وطفلة صغيرة، هربًا من قصف الاحتلال ولياذًا بعصمة الثورة وأمان البوليساريو، نُسجت القصة بقلم يدمع الحروف لا يكتبها.
على ضوء خافت لسراج العائلة الذي كان يعتبر النور الوحيد الذي يضيء عتمة مخيمات اللاجئين الصحراويين، وفي ليلة شتاء تتشاكس رياحها الباردة مع جوانب الخيمة الرثة الصامدة، فينسل صقيع البرد من شقوقها التي لم تجد فاطمتو ما ترقعها به من بقايا الملابس البالية، تحكي فاطمتو لابنتها الحرية قصة انطلاقتها الفريدة، حيث انطلقت هي ووالدتها تحت دَوِيّ قصف الاحتلال المغربي الهمجي على المدنيين الصحراويين في أم أدريگة، انطلقتا رفقة أختين لهما، بأقدام حافية دون زاد ودون وجهة، يشقون بخطى متسارعة عتمة الليل بعتمة الخوف نحو اللامكان، وتتزايد سرعة خطاهم بأصوات القنابل المترامية خلفهم، يسيرون طول الليل حتى ينشق ضوء الفجر لكي تستطيع مريم والدة فاطمتو، وهي أعرف المجموعة بالأرض، تحديد المكان الذي قد أوصلتهن إليه أرجلُهُن بعد ليلة شاقة مليئة بالرعب والجوع والبرد، لكي تحدد المكان الذي يمكن أن يجدن فيه ماءً ليستقينَ وملجأ من العيون الواشية ومن الطيران الذي يحرق كل قلب صحراوي ينبض بلا هوادة ودون تفريق.
في ضحى ذلك اليوم، وبعد أن تعسر وجود سوى قليل من الماء العكر، اتخذت المجموعة من طلحة ظليلة حاجبًا بينها وبين السماء لتحتمي من القصف. جاء المخاض لأخديجة، والتي قررت أن لا تبقى، رغم ظرفها، خلف أختها مريم، وأن تنزح معها هربًا من الرعب الذي بثه الاحتلال المغربي في نفوس المدنيين العزل، وهربًا من التشتيت الذي سيطال عائلتها، وتلبية لنداء الثورة. جاءها المخاض تحت تلكم الشجرة، وليس في المجموعة من يمتلك أدنى خبرة عن عمليات التوليد، وبدون وجود حتى قطعة قماش غير ما تكتسيه جلود المجموعة. ما هي إلا ساعات حتى أنجبت أخديجة ابنها، الملاك الصغير، الذي قررت أن تسميه الزعيم تيمنًا بأن يكون له شأن في مقارعة أعداء أرضه، وأن يسترد لأمه وأخواتها الكرامة، وأن يعود بهن في ظرف غير ظرف ميلاده إلى أرضهن الحرة المستقلة.
كان ميلاد الزعيم قبل مغيب الشمس بقرابة ساعة، وكانت أمه تحتاج إلى غذاء بعد أن أنهكتها المسيرة الطويلة الشاقة، وأنهكها مخاض الزعيم العسير، فلم يكن في ذلك الطلح نخيلاً، ولم تجد هي منه ما تشرب وتأكله، والليل يرخي سدوله على ليلة باردة. قررت مريم أن ينطلقن قبل الوقت المحدد عندهن، علّهن بذلك يجدن مغيثًا للزعيم وأمه. بعد ساعتين من المسير، وفي أول الليل، بصرت مريم بنور نار خافت، استبشرت بذلك، بينما كانت ابنتها فاطمتو تشتكي من ألم شديد في قدميها وجوع حاد لم تعهده قبل ذلك ولم تفهم سببه آنذاك، وتحمل في يديها الزعيم صغيرًا ملفوفًا في قطعة من ملحفتها، في الحين الذي كانت تستند فيه أخديجة على أختيها الأخريات، امباركة واميلمنين. اقتربن من النور، فإذا بها خيمة صغيرة لعائلة صحراوية مكونة من أم وابنتيها وابنها الرضيع، بينما تأخر عنهم الأب الذي ذهب يحتطب ويرد الماء من أقرب مورد لهم على جمله.
بعد أن أرعب منظر النسوة وحالهن صاحبة الخيمة، التي وبعد أن استوعبت الموقف، سارعت لتقديم ما يمكن من مساعدة لهن، ودمعُ عينيها تأثرًا يتناثر على خديها، فقدّمن لأخديجة ما يسد رمقها هي وفاطمتو، وبعد ذلك للجميع. استقبلتهم المرأة البدوية بحرارة وبكرم النساء الصحراويات المعهود، وبِتْنَ في خيمتها الصغيرة حتى الصباح. وعندما كان متفقًا أن يواصلن سيرهن، اعترضت صاحبة الخيمة أن يختبين عن الأنظار في ذلك اليوم كاملًا، دون نقاش، وبإلحاح منها وإصرار.
بعد مغيب شمس اليوم ذاته، عدن للمسير، وقد تأكدن أنهن في الطريق الصحيح المؤدي إلى الأمان، وذلك بفضل المعلومات التي وجدنها عند صاحبة الخيمة. استمررن في المسير حتى الصباح، وانبثق لهن نور الفجر عن إحدى الشاحنات الصحراوية التي كانت تنقل النازحين الصحراويين إلى بر الأمان. توقفت لهن الشاحنة، وأُجلِست مريم وبنتها وأخديجة وابنها في مقطورة الشاحنة، بينما جلست الأختان الأخريين مع بقية المواطنين على ظهر الشاحنة.
بقيت قصة النزوح العجيبة هذه، وكيف استطاعت مجموعة من النسوة البدائيات تحدي كافة الظروف التي اعترضتهن إلى أن يصلن إلى مكان آمن، عالقة في ذهن الفتاة فاطمتو، التي نقلتها بكافة تفاصيلها كأنها وقعت ليلة أمس لابنتها الحرية، التي كانت تستعد آنذاك للذهاب إلى مقاعد الدراسة في أول سنة لها في المراكز الجزائرية.
انتقل الشعور من مخيلة الأم، التي كانت طفلة في تلك الحادثة، إلى مخيلة البنت، التي حملتها في طيات ذاكرتها، مستخلصة منها أن الاحتلال المغربي لم يأتِ موحدًا للأرض وحاميًا لمكوناتها كما يدّعي، وإنما جاء حارقًا للأرض، مستبيحًا للعرض، محاولًا إبادة المكون الصحراوي عن بكرة أبيه. وهكذا تتوارث الأجيال الصحراوية النضال، ويقدمن في ذلك الجهد والوقت والدماء، متطلعين لأرض حرة من براثن الاحتلال، وبفضل سواعد أبنائها، يرفرف علمها عاليًا، مباهيًا بين الأمم.
سلامة دداه محمد