-->

"بنض الشهيد".... قصة قصيرة


دخل الخيمة مسرعا من غيرة عادته، فهو الذي لا طالما نهر و عاتب ابنته الصغيرة السالكة على الدخول إلى المكان مهرولة، حتى أصبحت في غيابه تلتزم بأوامره و تطبق نواهيه، بل صارت لا تتوانى في القول لامها مريم لا تفعلي كذا أو كذا فمحمد مولود قال أن ذلك الفعل "أمحالي". 
أخذ محمد مولود يفتش في أشيائه القليلة عن بعض المستلزمات التي كانت لا تفارقه عندما يعود بتسريح من ناحيته العسكرية. 
و دون أن يلتفت أو يكترث لوجود مريم التي ما زالت مشدوهة لهيئته الجميلة و بياضه اللافت و هو الذي عرفته بنحافته و لونه البرونزي و شعره الأسود الكثيف و لحيته الفوضوية و بيته المزركش و طوبته الطويلة التي لا تفارق خلجات أصابعه اليمنى منذ أن فقد بعض رفاقه في عملية "لبيرات". 
"مريم أين وضعتي دراعتي البيضاء التي كنت قد لممتها قبل ذهابي في هذه "السكمارة" العسكرية"، قالها و هو يحاول إحكام رباطها. 
أشارت مريم بسبابتها اليمنى إلى الخارج و هي ما تزال في حالة ذهول و قالت: "إنها مسدله على تلك "الخالفة" الأمامية للخيمة، كانت قد غسلتها السالكة هذا الصباح و أظن أنها ما تزال رطبة". 
مرر حفنات من الماء على وجهه و مسح على رأسه و مشط شعره بأصابعه البيضاء الرقيقة و اخرج قنينة "مسك الطيرة" من جيب سترة قديمة له، ر ش على عمامته النيلية و مرر يده على وجهه بعد ما وضع قطرات من العطر في كفه و نثر رشات أخرى متفرقة على مواضع مختلفة من دراعته البيضاء الشفافة التي ما زالت مبللة و غرس في فمه سواك ابيض طويل من شجر "ايراك". 
ارتفع و عدل أكمام دراعته و فجأة راح يذرع الخيمة ذهابا و جيئة و كأنه نسي شيئا مهما قبل أن يتجه ناظره إلى تلك الزاوية التي كانت مريم قد خصصتها لطبلة الشاي و "صمبوجة" الضوء.. "لقد وجدته" قالها و هو يسترد أنفاسه. 
رفع طرف الحصيرة القديمة فأزال من تحت ركام التراب كومة قماش متآكلة قد عبثت بها دودة الأرض فك رباطها و اخرج "بنض الشهيد" و قبل أن يضعه في داخل جيب دراعته الواسع المزركش رفع الكاسيطة و قبلها و التفت إلى مريم التي بقيت متسمرة في مكانها محدقة فيه بعينين واسعتين وقال: "إن هذا أغلى ما بقي عندي". 
و انقلب مسرعا خارج الخيمة.. 
بخطوات مترنحة حاولت مريم أن تكتشف طريقه، فهرعت مسرعة إلى باب الخيمة المؤدي إلى الخارج قبل أن تصدمها نظرة تلك الشابة البيضاء اللون، الجميلة المنظر.. ذات القامة المتوسطة و الملحفة البيضاء الشفافة و الأعين السود اللامعة .. التي كانت تنتظره في الخارج و التي جعلته يسرع في ترتيب نفسه بهذه الطريقة الأنيقة. 
امسك بيدها و انطلقت منهما ضحكات صبيانية في حبور و متعة لا متناهية. 
وقف قليلا و لوح بيده و ابتسم و قال لمريم "سنلتقي".. و من ثم هرولا بعيدا حتى اختفوا عن أنظارها. 
رفعت مريم رأسها من على مخدتها الكبيرة .. فإذا بالشفق الجميل و النسيم الصباحي العطر بدءا يودعان ليلة شاتئة قاصية و مظلمة فقالت بصوت مبحوح و هي تسترد أنفاسها و تحاول التحكم في دقات قلبها المتسارعة "أصبحنا و أصبح الملك لله". 
صلت ركعتين و ما أن همت للخروج حتى لفت انتباهها تلك الأشياء الغالية على قلب محمد مولود قد وضعت بجانب عتبة الخيمة، سواك .. بنض الشهيد .. سترة عسكرية... و حوائج أخرى.. 
و قبل أن تنتظر إلى المساء حتى تستمع إلى البلاغ العسكري عبر أمواج الإذاعة حتى أطلقت عنانها للزغاريد التي عانقت الخطوط الذهبية الأولى لأشعة شمس ذلك اليوم الشتائي، بعدما تأكدت أن محمد مولود استشهد و أن المرأة التي رأتها كانت حورية قد ظفر بها في جنة النعيم. 
أخذت كاسيطة "بنض الشهيد" و ضمتها إلى صدرها و زفرت زفرة عميقة و أغمضت عينيها و قالت في قرارة نفسها "لاهي نلتڴاو أيلا رادها الله".. فهامت بين البكاء و الضحك. للصحفي محمد السالك احمد

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *