-->

هل لازلنا نتذكر الدكتور؟

منذ السبعينات وتواجد مخيمات للاجئين في مكانها الحالي، دأب الصحراويون على
رؤية ذلك الرجل الطويل القامة الذي يضلع في مشيته وهو يقف عند الكنترول او يمشي بين المخيم والكنترول كل صباح تقريبا متوجها الى عمله.. صحيح كان يعاني من اجل ان يصل الى عمله، ويسلك ذلك الخط الجغرافي يوميا ويعاني نفس المعاناة مع النقل، لكن، من جهة اخرى، كان يفعل ذلك بصمت وبتحمل لايتحمله الا هو.. ورغم تلك الصورة التي ارتسمت في مخيلة الناس عن ذلك لرجل ألا ان اي منهم لم يسمعه في يوم من الايام يتذمر او يشكو. كانت معنوياته دائما مرتفعة وعزيمته لا تذوب.. كان اللجوء صعبا جدا على الأقوياء، لكنه هو رغم اعاقته الجسدية كان يحس انه اقوى منهم، اكثر اقتناعا منهم وأكثر قدرة على التحمل.. واصل القيام بذات العمل ورسم خط السير الجغرافي ذلك يوميا؛ كان يسير في البرد، في الحر، وقت الريح متجها نحو الكنترول دون احتجاج، دون تذمر ودون شكوى.. كان الناس يسمونه الدكتور، يعرفون أنه يعمل في الإذاعة.كانوايحترمونه، لكن في نفس الوقت كان في مخيلتهم يرمز للعناد ضد الطبيعية وضد القساوة، ويرمز للحب الكبير للوطن المحتل..
ولد شهيد
عرفه الناس باسم الدكتور، ورغم السنوات التي قضاها بينهم ألا أن غالبيتهم لا تعرف اسمه الحقيقي، وكانوا يكتفون بمناداته الدكتور، لقبه، حين ينادون عليهه.. اسمه الحقيقي محد سالم بشرايا سيدي يحي، ازداد بالعيون وترعرف فيها حتى بلغ الثامنة.. وهو طفل في الثامنة راى والده يحمل السلاح ويخرج من المنزل ولا يعود.. لم يفهم ذلك في البداية، لكن في ظرف قليل عرف ان والده ثار مع الثائرين وضحى برتبته ومستقبله في الجيش الاسباني، واختار ان يقف في الصف المقابل لذلك الجيش الذي كان يستطيع أن يترقى فيه.. شارك في الهجوم على العيون وعلى لبلاية، وحين كانت اسبانيا تطارده هو ورفاقه أقاموا لها كمينا في الدشيرة.. كانت معركة كبيرة وقعت يوم 13 يناير 1958م، استشهد فيها بشرايا والد الدكتور، ولم يعد الى المنزل.. في الصباح كانت السلطات الأسبانية تطرد عائلة الدكتور من منزلها في العيون وتصادر أملاكها عقابا لها على قتال والدها للقوات الأسبانية.. وجد الدكتور، وهو طفل، نفسه هو وعائلته في الشارع.. ذهب مع والدته وبدأ رحلة تنقل طويلة بين طانطن وطرفاية للدراسة، لكن المضايقات المغربية لم تتركهم يهناؤن.. في نظر الدكتور وهو صغير، أصبحت أسبانيا التي قتلت الوالد أرحم بكثير من المغرب.. عادت العائلة للعيون مرة أخرى، وتمكنت بعد الكثير من المشاق من استعادة دراها.. 
لماذا سمي الدكتور؟
يعرف الناس في المخيمات ذلك الرجل الذي كان يتنقل وهو يضلع نحو الكنترول بالدكتور.. كلهم يقولون له الدكتور، وقلة هم الذين يعرفون اسمه الحقيقي.. الاسم الحقيقي تم اقباره تحت الاسم الحركي- الدكتور- وبما أنه كان يعمل في الاذاعة كان الناس يظنون أنه دكتور في الاعلام أو في مجال قريب من الإذاعة.. 
للاسم الحركي قصة..بين سنتي 66- 67، بدأ محمد سالم بشرايا يدرس الطب.. في ظرف سنتين أصبح طبيبا أو في موقع يؤهله أن يكون ممرضا.. بدأ أصحابه الديه النوشة، الكناش، حسان داهي وآخرون ينادونه بالدكتور، لصق به الاسم.. بما أنه هو كبير العائلة، كان يتعجل العمل ليحل محل الأب... حين تقدم للوظيفة كي يصبح طبيبا تم رفض قبوله بسبب صغر سنه.. كان عمره 16 سنة فقط.. تخاصم مع السلطات الأسبانية وضرب مسئول الصحة في الصحراء بكرسي، لكنه أخطأه.. كان اسم مسئول الصحة الذي ضربه الدكتور Magallon، لازال يتذكر اسمه.. قرر ترك مهنة الطب.. لم يبق معه من تلك المهنة ما عدا لقب الدكتور.. عاد الى الدراسة من جديد في العيون، في المعهد، وفي نفس الوقت كان يقوم بتدريس اللغة العربية للذين لا يتقنونها.. رغم ذلك بقى اللقب معه، رحل معه الى اي مكان ذهب اليه حتى استقر معه في الاذاعة التي قضى فيها الكثير من السنوات..
لوشاعة وبصيري
في المعهد تعرف الدكتور على شاب أخر يكره ظلم ونظام المغرب مثله.. الشاب اسمه لوشاعة محمد لمين، وسيعرف لاحقا، حين تبدأ الثورة، باسم عبيد لوشاعة.. كرهمما للمغرب، معا، جعلهما يصبحان أصدقاء.. كانت نقاشاتهما تدور حول الوضع في الصحراء الغربية واطماع المغرب فيها، وكان يتفقان على ان اسبانيا هي، رغم كل شيء، أحسن من المغرب.. كان الشاب لوشاعة نشطا وذكيا، وكان يتنقل بكثرة بين العيون والسمارة.. في المدينة التاريخية، السمارة، أقترب لوشاعة من سيدي براهيم بصيري، ودخل في الحركة النضالية التي تاسست آنذاك... حين عاد للعيون بدأ لوشاعة يشرح الوضع للدكتور، يجس نبضه، يتأكد هل يريد أن يصبح مناضلا في الحركة ام لا؟.. في الاخير صارخه بالحركة، وطلب منه أن أراد أن ينضم للحركة عليه أن يتصل بسيدي احمد رحال.. تقدم الدكتور واقسم أن يكون عضوا في الحركة وأن لا يخون شعبه.. حين زار بصيري مدينة العيون سريا في شهر مايو من سنة 1970م، طلب لقاء المثقفين من الحركة.. تم استدعاء الدكتور معهم.. أقام لهم بصيري محاضرة عن الوضع العام وشرح لهم كل التحديات التي تحيق بالمنطقة.. تعرف على بصيري، أصبح عضوا نشطا في النضال وشارك في مظاهرة الزملة.. قبض عليه وقضى ثلاثة ايام في السجن والتحقيق. القبض على بصيري وجماعته جعلت الدكتور يصاب باحباط كبير وشبه صدمة.. ظن ان الثورة فشلت.. شهور بعد ذلك سمع ان مجموعة من الشباب تتحرك في الجنوب المغربي وتتحدث عن الثورة وتتظاهر ضد المغرب.. قرر ان يتصل بهم.. سافر الى الرباط، وهناك التقى بالولي ومحمد لمين احمد.. كرزماتية الولي رفعت مؤشر معنويات الدكتور.. عاد الى المنطقة وهو يفور حماسا.. أعد دراسة شاملة عن المنطقة قيم فيها الوضع سياسيا واقتصاديا وذهب بها في العام الموالي إلى طانطان كي يعرضها على الولي وجماعته.. تعرف على مجموعة الطلبة النشطة في طانطان، وبدأ يتصل بهم.. كان يحمل الوثائق والكتب من عندهم ويوزعها في مدن الصحراء.. على الأرض نضجت فكرة الثورة، وسمع الدكتور أن براهيم غالي، ومهمد زيو، واحمد القائد صالح سافروت نحو موريتانيا.. كان يحس أن شيئا ما سيحدث.. 
الولي يختار للدكتور الاذاعة بيتا 
تأسست جبهة البوليساريو، التحق بها الدكتور من الأوائل، لكن، في نفس الوقت، واصل دراسته في جامعةComplutense في مدريد.. في يوم من الأيام جاء الأمر من البوليساريو للطلبة الصحراويين في اوروبا بالالتحاق بالثورة.. ترك الدكتور منحته ومستقبله المضمون والتحق بالثورة.. تم تعينه في سلك التعليم.. حين تأسست الاذاعة الوطنية جاء الولي يوما يبحث عن الدكتور.. أخذ يده وخرج به وطلب منه أن يلتحق بالاذاعة يساعدهم في الترجمة.. ذهب الدكتور الى الاذاعة وبدأ يعمل فيها في تلك الظروف الصعبة.. بسبب قلة الاطارات تحول الدكتور الى ثلاثة صحفيين في جلد صحفي واحد.. كان يترجم ويذيع ويعد البرامج... كرس كل حياته للاذاعة.. أصبحت هي بيته، هي مهنته وفيها قضى الكثير من السنوات.. تخصص في برنامج المدن المحتلة.. أسس برنامج " مع الصامدين"، وهو برنامج بالحسانية موجه للمناطق المحتلة. اشعل ذلك البرنامج النار تحت اقدام الغزاة.. كان كل الصحراويين في المدن المحتلة يتجمعون ليليا يضعون المذياع يستمعون للدكتور وهو يشن حربه الاعلامية على المغرب.. 
ورغم أن الكثير من رفاق المهنة تركوا بيت الاذاعة بسبب الظروف، التعب والملل إلا أن الدكتور كان يحس أن هذا المجال هو الذي يستطيع أن يعطي فيه أكثر.. قرر أن يبقى في ذلك البيت يعمل في الاذاعة ليل نهار.. تحمل كل مشاق ذلك العمل في داخل لاذاعة وخارجها بصمت وحنكة.. حين كان يرى الرفاق يغادرون بيت الاذاعة، كان هو يغرز اوتاده أكثر في ذلك البيت، وفي نفس الوقت كان يحصد اعجاب الصحراويين في المخيمات والمناطق المحتلة.. 
في 87م حوَّل برنامج مع "الصامدين" الى برنامج " الصحراء ما تنباع". في ظرف قصير اشتهر ذلك البرنامج وزادت شهرة الدكتور.. بدأ البعض يناديه ب" الدكتور، الصحراء ما تنباع". 
لكن مظاهر تأثير العمل في الاذاعة بدأت تظهر في عيني الدكتور. في سنة 89 بدأ الدكتور يحس أن بصره بدأ يضعف ويتعب.. ضعُفَ البصر، لكن المعنويات بقيت مرتفعة.. بقى مصرا على العمل في نفس البيت، كان يتحدى ضعف البصر، يصر، ويرسم صورة رائعة للصمود وللتفاني في العمل.. بقى يسير على نفس الخط الثوري، ويرسم نفس الخط الجغرافي من المخيم الى الولاية.. لم يطلب في يوم من الايام سيارة ولم يطلب ان يترك العمل وبقى مناضلا حتى فرض عليه ضعف البصر أن يترك بيته الذي اختاره له الولي في يوم من الايام في اواخر سنة 1975م.. كل الصحراويين الان يذكرونه بخير، وحين يتم ذكره امامهم يقولون" وخيرت."
بقلم: السيد حمدي يحظيه

Contact Form

Name

Email *

Message *