-->

مريم بنت الحسان، كما عرفتها.. وشيء من التاريخ

أنبأت وسائل الإعلام والإتصال الوطنية (22عشت2015) برحيل الفنانة الصحراوية مريم بنت الحسان،
عن عمر ناهزَ السابعة والخمسين سنة، بعد مرض عضال لا يرحم لازمها سنين. الفنانة رمز من رموز الأغنية الثورية الوطنية الملتزمة, ومثال يحتذى في العمل الدؤوب والصبر الجميل والتواضع العَلي ونكران الذات.
مريم بنت الحسان إنسانة متشبعة بثقافة مجتمعها, متمسكة بقيمه وأصالته, فضلا عن كونها مناضلة محبة لوطنها, خادمة لشعبها, ومدافعة عن قضيته الوطنية العادلة التي هي عنوان أغنيتها ومطلع نشيدها وبيت قصيدها. ظلت المرحومة في حياتها, وإلى أن رحلت, على عهد الشهداء البررة المخلصين وطريق الكفاح, عملت بكل تفانٍ, وأعطت بكل سخاء, و واصلت بكل إصرار ودون تردد, فسهرت حتى آخر ساعة, وقاومت حتى آخر طلقة.
وضمَّن الرئيس الصحراوي محمد عبد العزيز, في رسالة تعزية الشعب, في مصاب وفاة مريم بنت الحسان, فقرةً تتركب من سطرين تقريبا, كلَّ مناقب الفنانة المناضلة الراحلة.
ولم يفت وسائل إعلام أجنبية الحديث عن صوت صحراوي رحلَ, إسمه مريم بنت الحسان, كان دوَّى طويلا واستمات كثيرا ضد احتلال المغرب للصحراء الغربية, ودفاعا عن حق شعبها في تقرير المصير. وبعرفان جميل وتأثر بالغ, تَلقَّف الصحراويون النبأ, وتنادوا من كل مكان للترحم على روحها والتحسر على فقدها, وسلموها شهادات تقدير بعضها مكتوب ومرصَّع بالوفاء, وثَمَّ من إستبقوا الوفاة فكتبوا مقالات إشادة ونعي, وأحيانا تعازي!, وهو أمر نادر الحدوث. وقام آخرون بنقل صور جثمان المرحومة عبر التواصل, وأقول لمستخدم "الواتس آب": ما هكذا تكون الآداب.
سألتُ الشاعر العازف الحسين مولود عدِّي: هل من كلمة, بعد رحيل المغنية مريم بنت الحسان, وكنتَ تعرفها بالأمس؟ قال: "هي نادرة, لم تبخل بلحظة واحدة من حياتها على القضية الوطنية, لم يثنها المرض عن عزمها ونضالها, ولم تذكر إسم مريم بنت الحسان لأحد إلا وقال لك وَخْيَرْتْ, إنها نجمة من نجوم الساحة الوطنية غابت الآن".
مريم بنت الحسان, بأغانيها الحلوة, كلماتها العذبة, سلاحها الأدبي الناعم, ولكن بإرادتها الوطنية الصلبة, إيمانها الراسخ وعزمها المتين, ساورت العدو فصَدعت جدار العار الآخر الذي يضربه حول قضيتنا العادلة, والمتمثل في التعتيم وسرقة الحقيقة, من وراء الأفق, ضربت المرحومة في حياتها بصوتها المَدى, شَقّـتْ بحنجرتها الماسية المتلألئة, بشدوها الذهبي وحماسها اللهَبي, عنان الجو فأربكت سُحُب التعتيم وأغبِرةَ الشَّك وأرمدة حَجْب الرؤى التي يزرعها هذا العدو المحتل في سمائنا لِدسِّ الحقيقة وإعماء الدنيا وإيهامها وتضليلها.. أرادت الفنانة بأنامل أغانيها الثورية وأنفاس كلماتها الوطنية الحارقة, أن تقرص العالم من الأذن, لتـُـليِّنَ سمعه, وتجعله يحس, ويلتفت ويُميِّز بين وجه الظلم و وجه الحق فيما يسميه الآخرون "النزاع" في الصحراء الغربية المحتلة. نَحتتْ الفنانة القديرة مريم بنت الحسان من كلماتها شموعا تـُـبيد عتمة الظلم والإستعباد, ومن صوتها وَهَجا يسكن روح الخَلاص, و يُنير درب التحرر,, نَسجتْ من شدوها ضمادا يلف جُرحَ وطنها العميق, يُسَكـِّـن ألمه الساحق ويمسح حزنه, ويطلق عنان الصبر ويشحذ العزم.
ومريم بنت الحسان,أيضا, الريشة الخفيفة, والروح المتواضعة, والجسم العصفوري الضئيل, بصوتها النحيل وكلماتها الرقيقة, حملت في داخلها وطنا جريحا يتلوى ويصرخ وعلى كتفها شعبا مترامٍ مُمزّقْ, شالت همّاً ثقيلا من وزن الإنسان والأرض, وشقّت الطريق و واصلت الدرب بخطىً ثابتة وهِمَّة قاطعة ورأسٍ مرفوع دائما حاملة لواء قضية شعبها العادلة في السماء, جاهرة بنداء الحرية والكرامة لبلدها المغتصَب ومصحصحة بواقع الإحتلال والقهر الذي يعانية.
مريم بنت الحسان كما عرفتها, طيبة الأخلاق, رقيقة الإحساس, شديدة التواضع, قوية العزيمة, حكيمة التصرف, ثابتة الإيمان, مريم بنت الشعب وأخت الشهداء, و رسولة القضية, مريم ينبوع عطاء وشجرة نماء ونجمة سماء و وجه صفاء,, عرفتُ المرحومة قبل سنين النضال الطوال, في الحي الحجري "الزمله", وأثناء النضال, بالعيون المستعمرة أنذاك والمحتلة الآن, كانت تشارك في المظاهرات في الشوارع ضد الإسبانيين, تندفع بكل حماس مرددة شعرات الجبهة الشعبية في الجو, كانت تحمل اللافتات وتوزع مناشير الحركة أحيانا, تداعب أعلام الثورة وتصنعها بيدها, تـلسقها بجدران غرفة نومها في منزلها المتواضع بحي "الزملة" العتيق, في العاصمة العيون, وفي الليل كانت المرحومة تستأنس بـ"صوت الصحراء الحرة" المجلجل. وطالما فتحت دارها لتجمعات المنتسبين للثورة, المناضلين والخلايا السرية, وأعدَّت لضيوفها الشاي الرفيع والطعام الحلو المتواضع النظيف, تَحْضُر المرحومة النقاش لكنها لا تتخل كثيراً, كانت حيية جدا, ومؤدبة كثيرا, ومستمعة عاقلة, وممتثلة صادقة وراضية ومخلصة.
وإذا لم يكن لديَّ مانع سأحاول أن أنتشل من الغرق في الزمن الماضي بعض الأمور التي حدثت وكانت بها مريم بنت الحسان من قاب قوسين أو أدنى, أتذكر حين استولى المتظاهرون على ملفات حزب "البونس", بعد حرق مكاتبه 6يونيو 1975 في العيون, واستقبلتْ المرحومة في دارها وسط "الزملة" بعض "الغنائم" عبارة عن أكياس من الكرطون بداخلها حُزَم من إضبارات المنتسبين للحزب, معلوماتهم وصورهم وإمضاءاتهم الشخصية, وقد كـُـتِب على الغلاف الخارجي بترجمة غير موفقة, وبالآلة الراقنة, عبارة: "موافق للمغرب" التي صُدِمنا لوجودها في تلك الأثناء, والتي بدون شك يجهلها حتى المنضوون في قاعدة الحزب الفرنكوي الخائن,, بتنا نقرأ الملفات ونـُـقَلب الصور, ونتفاجأ أحيانا ببعض الوجوه, نستغرب انتمائهم لذلك الفصيل الإستعماري الموازي, ومريم بمنت الحسان, الوحيدة من النساء التي كانت حاضرة في تلك الليلة, تنكّت عليهم وتقول: "أخليت يحرك بيْكم!", حتى فولان, وحتى فولان...!, وبعض الإخوة يضرب كفا بكف وينقلب على ظهره ضحِكا من كلام مريم رحمها الله. ومنذ ذلك اليوم الذي حُرقتْ فيه مكاتب "حزب الإتحاد الوطني الصحراوي" وجُرح فيه, من بين آخرين, الشهيد مولاي المهدي ولد ابراهيم ولد اُبيْ جمعة, وخرج فيه السر من "الفِسينه" البائدة في الصحراء, الى دار المناضلة مريم بنت الحسان في "الزملة" في العيون, منذ ذلك اليوم والليلة, لم أعد أعلم شيئاً عن "البونس" الإسباني ولا عن "الكاوْدِيُّ" رئيس الحزب خليهنَّا الصحراوي.
أتذكر ليلة من ليالي السنة الأولى في اللجوء, عاتية الشتاء شديدة البرد, في الساعة الثالثة في الظلام, تعطلت السيارة, وكنا أربعة خامستنا مريم بنت الحسان, وقال السائق عشر كلمترات دون المكان الموعود, وليس معنا ثِقاب ولا حطب ولا أغطية, فترجَّلنا وكان البعض حفاة, وكنتُ في تلك الليلة أحتذي نعلا من "جمبة" الإبل كأنه الثلج, حين اتجهنا عكس تيار هوائي قوي, "تحاول" الريح دفنا للخلف بينما البرد يلكمنا في الصدور ويخمشنا في الوجوه ويقرصنا ويعضُّنا من أصابعنا وأقدامنا, وقد انتزع منا ذلك الموقفُ جميلَ صبرنا وثباتنا وكل شيء حتى الكلام, عدى الفنانة المرحومة مريم بنت الحسان باتت ليلتها تمزح وتضك وتنكت على بعضنا وكأننا أطفال سُذج قليلي التحمل وهي أمُّنا!.
مرة كنتُ "شاهد على العصر" في عاصمة الثقافة, قلعة الشيخ الفاضل ماء العينين رحمه الله, مسقط رأس الفنانة الراحلة مريم بنت الحسان, مدينة السمارة المحتلة الآن, في صيف عام 1975, يوم قامت عائلة صحراوية ينتسب بعض أعضائها لحزب "البونس", بهدم خيمة زفاف ابنتهم وطرد ضيوفهم, بسبب ما أسموه "أغاني الفلاكة" (بالجيم المصرية) ويقصد ون أغاني الثورة التي أنشدتها مريم بنت الحسان, بتواطوء مع رب الأسرة, في الخيمة تلك والمناسبة!
وربما ذكرت شيئا آخر بسيطا يكاد يغرق في الماضي, هي أول أغنية وطنية دشّنت بها الفنانة المرحومة مريم بنت الحسان مشوارها الغنائي الملتزم في إطار الثورة, عنوانها: "من شوْفتْ خيَمَه نازْلَ. فيها ثوّارْ إيبانُ. رُوحِي ماهِ متْنازْلَ. عنْ ذَ الوادْ اُسكَّانُ", وكانت من إنتاج الكاتب, في شهر فبراير 1975, المكان خيمة سوداء بالساقية الحمراء قرب العيون العاصمة, والمناسبة حفل زفاف أحد المنتسبين للثورة أنذاك, هو الشهيد محمد الأمين أحمدسالم المعروف بإسم "لَعْوَجْ". وما أكثر ما لحَّنت مريم وقدمت من أغانٍ جميلة من كلمات الشعراء الكبار من قبيل بادي محمدسالم, ومحمد مولود بدِّي الحاج (بيْ أبُّوه), والبشير اعلي, والزعيم علال وآخرين, وذلك قبل أن تصير هي من نفسها ناظمة شعر ومُلحِّنة, ودبلوماسية من دون جواز وسفيرة غير رسمية, فضلا عن كونها مغنية شهيرة وفنانة كبيرة ومناضلة مخلصة.
تميزت المرحومة مريم بنت الحسان, في حياتها, بروح الدعابة ورهافة الذوق, كانت تدغدغ الأذن وتضحك السامع وتبدد الهم وتجامل الناس وتحترم الجميع, غضيضة الطرف خفيفة الروح جميلتها "هابطة عن العار" رفيعة المعنى وارفة الكرم "داعية بالخير" متفائلة بإستمرار ندية الكف مزدهرة الملامح, طيب الله ثراها ورحمها وأسكنها الجنة.
اليوم سكتت الفنانة مريم بنت الحسان عن الكلام الجميل, رحلت عن المنابر, توارت من المشهد وغابت عن الأنظار, سافرت مقتفية أثر الشهيدات الأخريات: الشهيدة النعجة, والسيدة أمي, وخادم الل سلمة, والناهة بنت البو, واللائحة تطول..., ودَّعتِ الجميع من الصغارإلى الكبار, وسيبكون ويحزنون ويموتون.. وسينسون غدا! أو بعد غد أو بعد قرن. ولكن لن ينسى الشعب والوطن ولا التاريخ مريم, هؤلاء الثلاثة أصدقاءُها الأوفياء وأحباءها المخلصين وعشاقها الهائمين بها سيذكرونها دائما, يحفظونها في قلوبهم معترفين بصنيعها وجميلها, بجليل أعمالها وعظيم عطائها, بخالص عهدها وصادق وعدها, وكامل وفائها حتى آخر لحظة وآخر قطرة, آخر دقة قلبْ.. وآخر رمقْ. رحمها الله.
بقلم : حسن مولود 2015/09/01

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *