-->

40 سنة من الوحدة، موازنة الخافي والمعلن

أثناء جلسة نقاش بمقر وزارة الخارجية تناول عدة موضوعات من وثيقة صادرة عن
هيئة وطنية، كان من بينها موضوع الوحدة الوطنية أثار إنتباهي بل فاجأني ما ورد على لسان زميل عمل له باع واسع في تاريخ منظمتنا التحريرية عندما قال: "إن الوحدة الوطنية التي أُعلنت عام 1975 ليست وحدة قبائل الشعب الصحراوي بل وحدة التيارات السياسية الموجودة حينها"
أرجعني كلام الرجل عشرات السنوات إلى الوراء، ذكرني بكل من لقنني درسا وطنيا، عُراف، أُمناء فروع، مشرفين تربويين، وقبل كل ذلك ماكان أبي وأُمي رحمهما الله يتحدثان به مع غيرهما من سكان حينا البائس في المنفى الأكثر بؤسا، ويؤكدون أنهم عليهم التخلي عن القبيلة والتمسك بالنواجذ بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، ثم بعد ذلك عندما كبرنا ودخلنا معترك الحياة أين رافقتنا الوحدة الوطنية بهذا المعنى على طول الطريق، مكتوبة في الوثائق وعلى السنة الملقنين وعلى الجدران وتعمقت لتسكن في الأذهان. وكنا في مخيمنا المتعب قد مررنا بمرحلة كان فيها من يُتهم بأنه مارس شكل من أشكال القبلية لفظا أو فعلا يُجر في أزقة ودروب المخيم تصرخ في وجهه النسوة والأطفال باقبح النعوت ويتفنن أمين الفرع في تشويه صورته والمس من كرامته لأنه "قبلي"...... إذا ماهذا الذي قاله الزميل في الإجتماع؟ لم أسمع يوما عن وحدة التيارات السياسية التي أشار لها الرجل؟ هل مر الزمن ونحن نعيش في ما يشبه كذبة كبيرة؟ حينها دارت بذهني مئات الافكار والذكريات والخواطر والأسئلة: هل تم تحريف تاريخ الحدث الذي صنعه الشهيد الولي؟ هل في الموضوع ما دبر بليل؟ ما معنى المجلس الإستشاري؟ وقبل هذا وذاك ما مامعنى الوحدة الوطنية التي يلجأ إليها أغلبية إطارات المنظمة عندما يحتاجون إلى تصفيق الحضور، وتحريك العواطف بدل الأفكار؟ 
في الظاهر أو المعلن في أدبيات التنظيم الوطني الثوري أن الوحدة هي ربط ودمج وتعشيق النسيج الإجتماعي الصحراوي ليصبح الشعب لحمة واحدة وكتلة واحدة موحدة عصية على التفريق "هكذا لقنونا"، قوية بالتلاحم مترفعة عن آثار زرائب المجتمع القبلي الذي رحلت عنه الأمم بعد أن عانت الويلات بسببه، ومن لم يرحل عنه لا يزال يدفع ثمنه حتى اليوم والأمثلة حية دخانها شاهق في السماء، ونيران حروبها الأهلية لاتزال تشوي الأجساد وتحرق الأخضر واليابس وتدمر مستقبل الأجيال. وعمليا الأمر مختلف فالنخبة والإطارات يجتمعون في المناسبات الإنتخابية، وفي بعض القضايا الإجتماعية على أساس قبلي وبكل جرأة ووقاحة، ويقفزون على مكونات التنظيم السياسي ومؤسسات الدولة الفتية، وفي كل الحالات يؤلفون التحالفات على اساس قبلي لقلب كفة الميزان لصالح توجه معين ولكنه دائما قبلي نتن، وكثيرا ما تجرأ بعض الإطارات على قولها علنا، وممارستها فعلا في المؤسسة التي يكلف بإدارتها ولمزيد من المفاجأة وإنعدام الضمير يقف صارخا في الندوات والمحاضرات يخطب في الجماهير بريقه المتطاير عن أهمية الوحدة الوطنية. ولم أذكر يوما أن دروس التوجيه المعنوي تناولت شئيا ولو قليلا عن تيارات سياسية صحراوية تم توحيدها في عين بنتيلي.
كنت أنوي طرح هذا الموضوع للقارئ الكريم قبل تخليد الذكرى الاربعين للحدث الوطني، لكن تقديرا للعديد من الإعتبارات تريثت ومن بينها لاحصرا الزخم الكبير الذي أُعد للإحتفال وكأننا حررنا شبرا من الأرض المغتصبة وقلت في خواطري لننتظر النتيجة، ومنها بعض الإعتقاد "الواهن" بأن التنظيم إستفاق وربما يرغب في بعض التوضيح بعد 40 عاما من الغموض، وأهم تلك الإعتبارات إحترامي الكبير لمشاعر عامة الشعب الذي ذاب كله كعادته في الإستجابة للنداء الوطني بالحشد وبذل الغالي والنفيس لصنع التأثير المطلوب. 
وفي أثناء الفعاليات الكثيرة المبرمجة لإحياء الحدث كنت أُمني النفس يوميا بأن يكون هذا العام فرصة للبعض ليخجلوا من أنفسهم وتصرفاتهم الناقعة في براز القبلية، ليبتعدوا قليلا عن مكبرات الصوت ويتوقفوا عن إستغباءنا، ليعطونا فرصة نمسح فيها وجوهنا من نتن ريقهم المتطاير في الدفاع عن وحدة هم من خربها وعاث فيها، وأن يكون فرصة للتنظيم سواء من خلال روحه المتمثلة في مركزية الفروع أو من خلال مركز القرار المتنفذ لأن يوضح حقيقة الوحدة الوطنية المُعلنة عام 1975 وعلاقتها بالمجتمع القبلي الصحراوي. وجاء اليوم الموعود والذي أصابني بالكثير من الإحباط والذي مس كل التصورات وأماني النفس التي كنت أحلم بها ولأُجنب القارئ الكريم تعب التخمين أكتفي بمشاركتكم المرارة التي تألمت منها حين تضمن التخليد إجتماع للمجلس الإستشاري في عين المكان الذي شهد ذوبان التيارات السياسية في توجه واحد.

مما زاد من خيبة أملي أيضا أن القوم ممن كان يُفترض بهم التقاعس عن الواجهة لا يزال في وجوههم وقاحة وفي قلوبهم جرأة لممارسة هواية التلاعب بنا والصراخ بأنهم هم من صنع الوحدة وهم حماتها في الوقت الذي سنشهد قريبا نتانة تصرفاتهم، وليظهروا على حقيقتهم لمن عمى من قبل عن رؤيتها. وأيضا مما شعرت حياله بالأسى تفنن العديد ممن تعاقبوا على منبر الخطابة يوم الإحتفال في تنويع وتلوين الكلام وأساسا الخلط بين وحدة التيارات السياسية و"وحدة" القبائل وكيف سمحوا لأنفسهم بالخوض في هذا الموضوع بعد 40 عاما، وكأننا نلقن درسا محرفا من تاريخنا.
ولا يفوتني أن أُشير هنا إلى براءة الشعب والعامة من مثل هذه التصرفات ولولا مؤامرات ودسائس النخبة لكانت عامة الناس طاهرة وبريئة من اي فعل أو تنظير يمت بصلة مهما كانت إلى القبلية، وحياتنا كصحراويين مليئة بالأمثلة الحية على نقاوة العامة وصفاء الشعب وبُعده عن نتانة الماضي وحبه وتطلعه لمستقبل مشرق خال من أدران الماضي وأوساخه ومنها لا للحصر حياة المقاتلين والطلبة وصداقاتهم، الصور الرائعة من التكافل والجورة التي تعج بها المخيمات، الإختلاط في النسيج الإجتماعي من خلال الزواج وغيره من صور الارتباط الإجتماعي من عقائق ومؤازرة وغيرها.
أربعين عاما تكفي يا قوم، كفى تلاعبا بنا وبعقولنا، أربعين عاما أثمرت ثلاثة أجيال في المنفى والسجون والتفرقة والعيش البائس، كفانا الوقاحة والجرأة في غير المقام، كفانا بؤسا في العيش ولا نرغب في زيادة بؤس التلقين، وإن كان لابد من حشو رؤوسنا فليكن بشئ نقي صاف يعزز رغبتنا في البقاء. للاسف وفي تصوري الشخصي لم يكن حدث "الوحدة الوطنية" إلا رسالة من ولاة أمرنا برغبتهم الجامحة في العودة بنا أكثر من خمسين عاما إلى الوراء فمن المستفيد يا ترى؟
بقلم: حمادي البشير

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *