-->

أخير قضى فيديل كاسترو بعد ان انتصر

” حين يتم الإعلان عن موتي لن يصدق ذلك أحدا.” فيديل كاسترو
كان قدر فيديل كاسترو أن تكون كوبا، الجزيرة الصغيرة العائمة وسط محيط من القروش المفترسة، وطنه، وتكون، من ناحية أخرى، قدره الكبير. لكن إاذا كانت كوبا صغيرة، جغرافياً، وتعيش في محيط القروش ذاك، فإن فيديل كان كبيرا، وكان يحس أنه أكبر من كوبا، ويستحق أن يعيش في وطن أكبر من كوبا بكثير حتى يجسد كل أفكاره السياسية.. لكن رغم صغر كوبا الجغرافي وهشاشتها الاقتصادية وعومها وسط محيط من الأعداء فإن فيديل جعلها كبيرة بقدره كبره هو وبقدر الوطن الذي كان هو يحلم أن يكون هو وطنه.
منذ بداية الخمسينات كانت الولايات المتحدة، جريا وراء السيطرة والهيمنة، ووراء الوهم الأمريكي، تحلم أن تحول كل تلك الجزر المحيطة بها، وبالخصوص كوبا، إلى حدائق خلفية يقضي فيها الأمريكيون الأغنياء عطلهم عند الشاطئ تحت الشمس، والفتيات الصغيرات يدلكن لهم اجسادهم المترهلة باصابع ملساء بضة. ففي ذهن الأمريكيين أن تلك الجزر لا تصلح إلا للعطل، ويجب السيطرة عليها وتحويلها إلى فنادق ومطاعم، وتحويل شعبها إلى عمال في تلك الفنادق والمقاهي وفي حمل الحقائب للامريكي فقط. لكن يبدو ان فيديل كاسترو رفض ان يكون نادلا أو طباخا في مقهى، ورفض أن يكون شعبه شعب يمسح أحذية الأمريكي . انتفضت روحه وذهنه في وجه تلك الإهانة وذلك الإذلال وثار قائلا “لا”.. كان الوحيد في تلك المنطقة كلها، وربما في العالم كله، الذي قال “لا” واضحة وصريحة للولايات المتحدة. تلك ال”لا” للولايات المتحدة جعلت الجميع يتصور ان فيديل كاسترو ورفاقه سيكون مصيرهم الرمي أحياء في المحيط لتفترسهم القروش.
انتصرت ثورة فيديل كاسترو، وأحس الشعب الكوبي انه تحرر من إذلال كان سيلاحقه تاريخيا، وتخلص من ظلم ليس قدرا عليه.. بدأ فيديل كاسترو ينفخ في روح كوبا المعنوية ويمدد من اسمها وموقعها في العالم حتى صارت كبيرة حقا. فكوبا، الجزيرة، التي كان الامركيان يحلمون بتحويلها إلى ملهى وفندق يمارسون فيه رذائلهم ويقضون فيها أيامهم الأخيرة كسواح يتشمسون، حوَّلَها فيديل كاسترو إلى دولة عظمى لها اسم وصوت في كل مكان وتقارع أمريكا في كل مكان..
في نظر أمريكا هو شيطان وليس بشر
حين خسرت الولايات المتحدة حربها مع كوبا- في الحقيقة مع فيديل- قامت بشيطنة فيديل كاسترو، وأصبح هو زعيم الجان ويجب التخلص منه باية وسيلة. تحولت مراكز المخابرات الأمريكية إلى مخابر تنتج المؤامرات ومحاولات الاغتيال التي تخطر على العقل البشري، لكن فيديل كاسترو كان أذكى واشطر من كل محاولاتهم. فشلت كل محاولات أغتياله ومحاولات قتله، وأصبح الأمريكان فعلا يعتقدون ويصدقون أنه ليس بشر إنما قوة خارقة لا حدود لمهاراتها وقد تهجم عليهم يوما.. أكثر من 600 محاولة أغتيال وفشلت كلها. حين فشلت مخابرات الولايات المتحدة في أغتياله وإطفاء نجمه حولت شرها وحقدها إلى كوبا كلها.. تمت محاصراتها وتجوعها وقطع الكهرباء والماء عنها، وحاصرتها الأساطيل من جهة في محاولة لتركيعها، لكن قوة فيديل المعنوية وذكاءه الوقاد جعل كوبا كلها تتحول إلى فيديل، وتقف في وجه أمريكا الشريرة. لم يستطيع أي أحد أن يعارضه أو يقف ضده، وسحق كل الذين عارضوه بنوع السحق الذي يستحقون. حوَّل كوبا في ظرف وجيز إلى قوة تخشاها حتى الولايات المتحدة، ويخشاها العالم..
في نظر الشرفاء هو بطل
لكن إذا كانت الولايات المتحدة أرادت أن تصدر إلى العالم فيديل كاسترو في صورة وهئية شيطان يجب التخلص منه لإنه ” ضد الانفتاح” وضد الولايات المتحدة، فإن فيديل كاسترو بحنكته وباحساسه بالعظمة، شن هجوما مضادا في العالم، ليس ضد هيمنة الولايات المتحدة فقط لكن ضد كل أنواع الاستعمار.. بدأ العالم يسمع به، وبدأ هو يكبر ويتضخم، ووصل إلى الأمم المتحدة، مقر العالم كله وتحمل على عاتقه مسئولية تزعُّم العالم الضعيف المغلوب على أمره. كان الوحيد القادر على مهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها، والوحيد القادر على انتقادها في نيورك، والوحيد الذي يصفق له الثوار والمظلمون والمضطهدون.. أصبح بطلا حقيقيا، وخرجت شهرته من كوبا ووصلت إلى كل أركان الأرض.. الكل أصبح يتحدث عنه، وكلما زادت شهرته زادت شهرة كوبا وتحولت من جزيرة صخرة إلى دولة كبيرة ولو معنويا.. حين تغلب فيديل على الولايات المتحدة، بدأ معركته الخارجية ضد الانظمة العنصرية والاستعمارية في العالم، ووصل دعمه، رغم فقر كوبا، إلى كل بقاع العالم. وصل الأطباء الكوبيون والمدربون الكوبيون والسكر الكوبي إلى العالم كله، وفتح أبواب كوبا ونوافذها للطلبة والمتدربين من كل مكان مظلوم. جاءوا من الجزائر ومن جنوب إفريقيا ومن الهند ومن فلسطين ومن الصحراء الغربية ومن انغولا. اقتحمت كوبا الصغيرة كل المحافل الدولية، ولم يخلو محفل دولي من العلم الكوبي الذي كان يرفرف كبيرا دائما في كل سماء حاملا الثورة والعصيان ضد الظلم. اقتحمت كوبا المحافل الرياضية وحصدت الجوائز والميداليات، وكان فيديل يركز على الملاكمة ويعتبر انتصار أي ملاكم كوبي على ملاكم من بلد ظالم، خاصة من أمريكا، انتصار سياسي.
كان أكبر من كوبا
إذا كان القول السائد القائل “أن هناك قادة أكبر من بلدانهم” يصح فإنه قبل أن ينطبق على أي أحد آخر، ينطبق بدقة على فيديل كاسترو وكوبا. ففيديل كان هو أعظم شخصية سياسية عاشت في القرن الماضي وفي جزء من هذا القرن؛ فهو لم ينهزم في أية معركة سياسية خاضها، ولم يسقط في أية موقعة، “والهزيمة” الوحيدة التي أحس بها في حياته حدثت له في اليوم الذي سقط فيه على الأرض وهو يهبط من المنصة في سنة 2004م. كان حقيقة أكبر من كوبا، وكان ربما الزعيم السياسي الوحيد في العصر الحالي القادر أن يكون رئيسا للعالم كله. أمتلك الكثير من المهارات السياسية الخارقة والكثير من الشجاعة في الميدان، كما أمتلك ديناميكية وكاريزما قلَّ مثلها في التاريخ.. كسب ثقة العالم كله خاصة الشرفاء، وجعل من كوبا بلدا عظيما..
حقق فيديل أكبر انتصار في حياته الثورية عندما رأى الولايات المتحدة الأمريكية تركع عند قدميه، وتنهي الحصار عنه. القدر جعله يعيش طويلا حتى يرى حلمه يتحقق وهو هزيمة الولايات المتحدة أمام بلده وأمامه هو شخصيا..
حتى بعد اعتزاله للحكم بقى ذهنه متقدا وذكيا رغم الكِبر وقهر الشيخوخة، وبقى ثوريا لا ينام إلا ثلاث ساعات في الليل. كان يكتب ويقرأ كل يوم، ويعطي رأئه في كل ما يخص الثورة في العالم، وبقى صامدا حتى توفى.. في سنواته الأخيرة أصبح معادلاً فنياً لكوبا وللثورة وللانتصار، وأصبح متحفا حيا يختصره هو في شخصه وفي وجوده. كل رئيس أو وزير يزور كوبا لا بد له من زيارة فيديل كاسترو؛ زيارة فيديل شيء جزء من البرتوكول وجزء من الفضول، ومن يزور كوبا ولا يزور فيديل العظيم فكأنما لم يزور كوبا. الذين يزورونه كانوا يقفون أمامه برهبة وبخشوع في طقس يشبه التعبد. الكثيرون ومنهم الرؤساء والوزراء كانوا يقفون أمام فيديل وهم لا يصدقون أنهم يقفون أمامه ويصافحونه. فهو عاش أسطورة عظيمة انتهت نهاية بسيطة. فبكل تأكيد أن الشعب الكوبي سيقيم له الكثير من التماثيل في كل مكان من كوبا، وبكل تأكيد، أيضا، ان الذين سيزورون كوبا في المستقبل لا بد لهم من زيارة تمثال فيديل كاسترو ولن يزوروا قبره لإنه أوصى أن يتم حرق جثمانه..
كان معجبا بالصحراويين
كان فيديل كاسترو أول زعيم عالمي، بعد هواري بومدين، يُعجب بالصحراويين. قال أنه رأهم يقاتلون مثل الأسود للدفاع عن حقهم فوقف إلى جانبهم بحماس وبقوة.. أعطاهم مفاتيح كوبا بكاملها وفتح لهم كل مخازنها. فتح لهم سفارة وفتح المدارس والجامعات الكوبية وفتح المدارس والكليات العسكرية لهم، وأعطاهم السلاح والسكر وكل ما يقدر عليه هو ويقدر عليه بلده الصغير الفقير ماديا ووالقوي معنويا.. تخرَّج من مدارسه وكلياته الآف الإطارات الصحراوية المقتدرة، وبعث لهم في مخيماتهم البعيدة دكاترته وأطباءه ليبقون معهم يعيشون اللجوء وهم ليسو في حاجة إليه.. الآن سيحس الصحراويون بالكثير من الحزن ومن حرارة الفقد لرحيل فيديل كاسترو الصديق الوفي البعيد الذي تعاطف معهم، دعمهم وبعث لهم سُكَّره الحلو ودواءه رغم أنه لا يجمعه معهم لا دين ولا لغة ولا جوار ولا أي شيء. فقط جمعه معهم الشرف والدفاع عن الحق.. رحم الله فيديل كاسترو ما أعظمه.

بقلم: السيد حمدي يحظيه

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *