-->

قصة ابن شهيد يبكي لها التاريخ


مازلت استدرك ذاكرتي وانا لم أتجاوز الربيع الخامس من عمري حينها ولأول مرة ادخل دور الحضانة بالدائرة ومنظر تلك السيدة التي وقفت أمامنا فبدأت ارتجف خوفا بظني انها ممرضة ستلقحنا بوخز الابرة التي كنت اتنازل عند ذكر شبحها عن بعض مطالبي من شدة الخوف منها وبينما أنا على ذاك الحال في انتظار اول ضحية وخز من سيكون ؟ إذ نادت بصوت عال : 
أبناء الشهداء يرفعون ايديهم ووقتها لا أعرف مامعنى ابن الشهيد ولم ارفع يدي فاتتني المربية قائلة لماذا لا ترفع يدك انت يا احمد فقلت لها ما نعرف ، فإذا بها تبكي وتضمني على صدرها ارفع يديك الاثنين انت ابن شهيد ومن أعز الشهداء ، رفعت يدي كالاخرين ووزعوا علينا ملابسا و لما رجعت إلى البيت سألت والدتي ( جدتي ) التي كنت أظن انها والدتي وان جدي هو والدي فإذا بوالدتي ( جدتي ) تنهار دمعا ودموعا بعد ما حكيت لها القصة وتضمني على صدرها الذي تعودت على دفاءته وعلى مسامع شقيقتي الوحيدة التي ساعرف انها هي والدتي ولأول مرة تتوحد بي شقيقتي ( والدتي الحقيقية ) وانام معها في فراش واحد وفي خيمتها التي كنت اسمعهم يقولون انها خيمة الضيوف ولم اسمع قط انها كانت خيمة ابي الشهيد فحكت لي كل شيء وقالت لي ان المربية تعرف ان والدي شهيد في معركة السمارة وأن فجر ذهابه مع زملائه إلى ساحات الوغى وانا لم أتجاوز الأربعة أشهر انحنى علي وقبلني قبلة الوداع قائلا يا ابني إذا لم أراك بعد اليوم فسيكتب لك التاريخ انك من اعز أبناء هذا الوطن ولن يفتخر عليك جيلك بما قدموا اباؤهم ولم يقدمه ابوك وهذا هو سبب الذي جعل المربية تبكي وجعل امك تبكي كذالك ، عدنا في اليوم الموالي إلى دور الحضانة وأتت الممرضات مع المربية ولم يكن هذا اليوم كالامس فإذا بالممرضات يبدان في تلقيحنا بالوخز ولما وصل دوري قلت لها لا ...لا انا ابن شهيد وهي المرة الأولى التي لم تشفع لي شهادة ابي . 
ابي لم أر له صورة إلا صورة واحدة اتذكر انها قد نزعتها والدتي من جريدة بجانب مجموعة من المقاتلين يتوسطهم رجل ابيض الرأس عرفت بعد ذلك أنه كان وزيرا للخارجية وقد أتى مع وفد أجنبي ويبدو أنه كان يترجم لهم . 
ثم عرفت من خلال والدتي أن ابي كان مقاتلا بالناحية الثالثة مما ترك في نفسي حب تلك الناحية وكنت دائما أفضل رقم 3 على كل الارقام واتقن كل العمليات الحسابية الموجود فيها رقم 3 ، ثم لم أعد أرى خالى العزيز( شقيقي الاكبر ) الذي كان دائما يلاعبني ، سألت عنه جدتي فقالت لي انه في مهمة وسيعود إذا سمحت له الظروف ، مرت سنوات طوال ولم تسمح له الظروف والتحققت انا بالجزائر ادرس وكلما أتيت صيفا اسال جدتي عنه وإذا بها تبكي وتبكي سيأتي يابني حين تسمح الظروف واقول لها كل عام وعام لا تسمح الظروف ويراودني التفكير وخيال ابتسامته الدائمة والظروف ، القاه ، لا القاه وجدتي لم تقل لي انه شهيد لأنها بكت عليه كما بكت على أبي . 
مرت الأيام والسنين لم أر فيها خالي ، بعد ذلك توفت جدتي رحمة الله عليها ثم جدي رحمه الله وبدأت الدنيا تضيق من حولي شيئا فشيئا حتى صيف 1989ونحن في العطلة الصيفية ، تدخل علي والدتي ووحيدتي في هذه الدنيا وهي تبكي وتبكي ، مالي أراكي تبكين يا أماه ؟ وبينما انوي الوقوف على جناح السرعة لانتقم من من أبكى امي ، فإذا بها تسترد أنفاسها المتوترة قائلة واخيرا عرفت مصير شقيقي انا لله وانا اليه راجعون لقد أخبروني انه يعتبر شهيد لأنه كان في السجن ( الرشيد ) واليوم التحق من كان مسؤولا عن سجنه بالعدو . 
بقيت جاثما كالصنم لا حركة وكلمات والدتي تحترق أحشائي كوخزة إبرة التلقيح التي كانت ترعبني في صغري من هول صدمة الفاجعة وانا انظر إلى عيني والدتي المحترقتان احمرارا ودموعا واتصفح قاموس ذاكرتي البسيط آنذاك كي أجد تفسيرا لكلمة شهيد ؟ شهيد ؟ ، والدي مات في معركة قتالية ضد الأعداء هو شهيد طبعا ، خالي مات في سجن الاهل والأصدقاء ، قالوا لوالدتي انه شهيد ؟ . 
وبينما نحن على ذاك الحال وكلانا ينتظر من الاخر كلمة تكسر صخرة الفاجعة ، فإذا بوالدتي وشفتيها ترتجفان ولم اسمع من كلماتها الخافة سوى سأذهب إلى الوالي من أجل أن يساعدني في التنقل من هذه الولاية إلى ولاية السمارة ،فقاطعتها لا يا والدتي السمارة لايتحملها ضميري لأنها مكان استشهاد والدي ولا احب ان يتكرر هذا الاسم على مسامعي كل مرة 
وانا كذلك يا ابني لم أعد اتحمل العيش هنا في هذا المكان الذي كنت أرى فيه أعز الناس علي ولم أعد أراهم ثم تنهال في البكاء ، فنزلت عند رغبتها بالموافقة ، وذهبت مرات إلى الوالي ولم يستقبلها وماهي إلا أيام وهي تتردد على الولاية حتى اشعروا أمهات الطلبة بإحضار الطلبة يوم غد باكرا عند إدارات الدوائر للسفر واتذكر أثناء توديعها لي قبل أن اصعد الشاحنة يا ابني " الواعر إلا اكرايتك " وأراني إلا ريت شيء من الفضة لاهي نرسلولك مع المشرف ، صعدت الشاحنة مع رفاقي ونظري لم يفارق يدي والدتي المهلهلتين بالوداع بينما بقية رفاقي يتفاخرون بما اشتروه من ملابس وزاد وانا لم يطرأ علي من جديد سواء خبر وفاة ( استشهاد ! ) خالي أو تلك الملابس التي كانت بحوزتي في السنة الماضية وفي ذاكرتي نية التركيز على معنى الشهادة والبحث في كل المعاجم عنها وجعلها فوق كل الاعتبارات حتى الرقم 3. 
مضت ثلاثة أشهر علينا في المركز الدراسي ذهب المشرف ولم يعود وسمعنا انه ذهب إلى العدو والمشرف الجديد لا اعرفه وكان خشنا قاسيا في التعامل معنا وكنت اتجنب لقاءه ، شارفت السنة الدراسية على نهايتها وانا لم أتلق اية رسالة ولا اي خبر عن والدتي وهذا أمر غير مألوف ، فقلت في نفسي ان الوالي قد ساعدها على التنقل ومازالت في ترتيب شؤونها . 
الفاجعة الكبرى : 
انتهت السنة الدراسية وذهبنا كالعادة إلى المخيمات ولما وصلنا إلى الدائرة مع غروب الشمس والنساء قد تجمهرن أمامها في انتظارنا لم اتعرف على والدتي من بين الحاضارات وبينما أنا أترغب شبح والدتي فإذا بجارتي المسكينة تناديني تعال هنا يا احمد وهي ليس لها ابنا ضمن مقاعد الدراسة أخذت بيدي تلك الجارة الحنونة محاولة إخفاء دموعها عني وبصرى يعانق جهة خيمتنا ولما اقتربنا المكان لم أر أثرا لخيمة والدتي ، توقفت عن السير سائلا الجارة أين خيمتنا ، هل والدتي حقا تنقلت ؟ ، فانحنت تلك السيدة علي وضمتني الى صدرها وانهالت في البكاء وانا لي تجارب حزينة في ضم الصدر ، قائلة لاباس هيا تسترح و ساحكي لك ، دخلت خيمة الجارة الحبيبة وقد تفاجأت بجمع من نسوة الجيران في انتظارنا وبدان كذلك هن يضمنني الواحدة تلو الأخرى وترتفع أصواتهن نحيلا بكاءا ، فهمست احداهن في اذني كلنا مريم ولا تبكي ، فهمت حينها ان والدتي لم تعد على قيد الحياة ، فقلت لهن مريم ماتت ؟ ساد التريث والصمت جميع النسوة وكلهن يمسحن دموعهن ، بعد وقت قالت واحدة منهن يا احمد أين ابيك وأين جديك ؟ هذه الدنيا غدارة ولا يدوم إلا وجه الكريم ، استسلمت لقضاء وقدر الله . 
أخبروني انها توفت منذ 4 أشهر بسبب نقص الدم وطول انتظار وسيلة نقل إلى االمستشفى الوطني وأنهن تشاجرن مع المدير ، وان الوالي منعها من التنقل وقد زاد ذاك الأمر من توتر اعصابها وان آخر كلمة لها هي يا احمد . 
لم تفارقني الجارة الحبيبة ولم تتركني اعيش آلام الحزن والفراق وأضربت هي كذلك عن الأكل والشرب حتى اكل انا واشرب ورافقتني مرات عدة لاترحم على روح والدتي وجدي . 
مرت سنين وانا اكابد فراق الاهل بالرغم ان تلك الجارة الحبيبة لم تبخل جهدا في سبيل سد ذاك الفراغ جزاءها الله خيرا وأحسانا عنا ، ذهب الرجل الاول بالأمن الذي كان سببا في وفاة خالي إلى العدو ولحق به المشرف الذي تربينا على يديه ثم لحق بهما إلى العدو الرجل الأبيض الراس الذي في الصورة التذكارية الوحيدة لأبي ثم قائد الناحية رقم 3 التي استشهد فيها ابوي ثم لحق بهم بعد ذلك الوالي الذي منع والدتي من التنقل ومدير المستشفى الجهوي الذي لم يحرك ساكنا في سبيل إنقاذ حياة والدتي المتدهورة كسرعة البرق ، كلهم جميعهم ذهبوا إلى العدو . 
لم أعد أعرف الحق من الباطل واختلطت المفاهيم لدي وتعددت القراءات لدى البعض ، وانا مازال حديث والدتي المنقول عن أبي يجوب صدري مابين اللحظة والأخرى ولم أعد ا سمع في المجالس اي حديث عن الشهداء ، وذات مرة عند نقطة مراقبة في انتظار وسيلة نقل إلى الولاية ركبت سيارة فاخرة بعد استشارة سائقها وكانوا 3 شبان على متنها وأمرني أحدهم بأن لا أتلف حمولة السيارة لان فم أشياء( frágil ) 
عفوا يعني سريعة الانكسار كأنه يريد شرح لي معنى الكلمة ، بقيت جامدا في مكاني وقد فهمت من كلام الشبان انهم أبناء وزراء ، يناقشون مشاريع كبرى واحد له منزل في تندوف وينوي شراء قطيع ابل والآخر له استوديوهات في انواذيبو وثالث سيعود إلى الجزائر بعد غد لأن أبيه الوزير يطلب منه البقاء مع زوجته حتى يعود ، وحين اقتربنا نقطة مراقبة الولاية التفت الي السائق وهي ثاني كلمة اسمعها منهم قائلا انت كظ هون هذه الولاية . 
نزلت من السيارة مهموما شارد البال اتذكر مثل الأخوة الخاوة " كظ من أجبل لازبل " . 
يتبع .... 
ابن الشهيد .

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *