الفقيد بابا السيد: المناضل المثقف… الشغوف بالعلم والمعرفة، فقيد المنطقة المغاربية
ما دامت الدنيا دار ابتلاء ومن الابتلاء ألا تكون قوياً، ومن الابتلاء ألا تكون صحيح الجسم، ومن الابتلاء ألا تكون آمناً، وهذه الآية موجهة للمؤمنين قال تعالى:﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ سورة البقرة: 155-157
كلُّ واحدٍ منا في هذه الدنيا تجرّع كأس الفراق، وذاق علقم الفقد ولوعة الوداع، وسكب عبراتٍ حرّى من القلوب، وذرف دموعا سخينةً، من المقل والعيون ….وكلّ واحد منا فقدّ أما رؤوما أو أباً عطوفا أو أخاً شفيقاً أو زوجا حنوناً أو صديقاً حميماً، أو رفيق درب ……
والإنسان عندما يودِّع مسافراً فإنه يعيشُ على أمل اللقاء به ولو بعد حين، أما عندما يُودِع إنساناً تحت أطباق الثرى، فعزائنا الوحيد دعانا للمولى عز وجل ان نلتقي في الجنة، مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فكأسُ الفراق مرُّ المذاق …
وعند فراق الأحبة، يُعبّر كل إنسان عما يجيش في نفسه بطريقته فهذا بالنحيب، وذاك بالبكاء والدموع وغيرُه بالعويل والآخر بالصبر والسُّلوان …أما نحن اخترنا ان نختزل كل ذلك بمرثية من حروف لعلها تكون لنا خير مواساة، سمتها الأحزانُ , سِفرها قلب مضنى وقافيتها اللوعة والأسى ….
فالفقيد بابا، عرفته في ريعاني شبابه، بحكم علاقتي بالعائلة، و بالشهيد الولي مصطفى السيد كزملاء في الدراسة ثم كرفاق التحرير منذ الوهلة الاولى، اثناء تبلور فكر الحركة الطلابية الوطنية، لتتعزز علاقتي بالفقيد الأخ بابا رحمة الله عليه في العمل النضالي، سواء حينما كان في العمل الخارجي لاتحاد الشبيبة، او بعد ذلك وهو ممثل للجبهة بفرنسا، لتترسخ العلاقة اكثر فاكثر ونتقاسم الكثير في مجال التجربة النضالية.
كما قدرت شغفه بالمعرفة والعلم خاصة والتعمق في اتقان اللغة الفرنسية، فكنت دائما مشجعا له، اذ لم يكن الفقيد مجرد رقم عابر في المسيرة الكفاحية، بل كان شخصية مغاربية الهوى والتفكير بامتياز، اذ ترك في هذه المنطقة بصمته من خلال علاقاته وشخصيته الاكاديمية، كباحث ومثقف يشاطرها التحديات، فمثقفوا المنطقة يتذكرون اليوم رحيله بكثير من الاسى والحزن وسيحفظون له دائما إسهاماته الفكرية، هوية وإنتماء.
فبابا السيد عزز مسيرته العلمية باخر اصدارته حول اهم الجدليات الفكرية اليوم في المنطقة والعالم من خلال اخر مؤلفاته الإسلام السياسي.
فقد ساهم في النقاش الذي ملأ الدنيا وشغل العالم ، منذ نهاية القرن الماضي وما اثاره هنتغتون من جدل كبيرا في أوساط منظري السياسة الدولية، بكتابته مقالة بعنوان صراع الحضارات. والتي كانت رداً مباشراً على أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما المعنونة “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، ليستمر النقاش والجدل حتى اليوم، كتب الجميع عن الموضوع، من اقصى الشرق الى اقصى الغرب، كل مدافع عن مقومات صمود حضارته في خضم ما يشهده العالم من عولمة متوحشة جارفة، لكل ماهو اصيل، وتحولات فكان المرحوم بابا السيد متابعا، محلل وناقدا، لكل تلك التجارب بالحجة والبرهان، من خلال كتابه الأخير الإسلام السياسي.
فلفقدان باب وقع خاص على النفوس، رحمة الله عليه واسكنه فسيح جناته.
… لكنها الدنيا كل من عليها فاني ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام.
بقلم : محمد سيداتي