-->

تحويل القبلة وتدويل الكعبة!


مع أنَّ الصّلاة لم تكن مفروضة عليهم؛ لأنَّهم لم يسلموا من الأصل، إلّا أنَّ محور الشّر من اليهود، والمشركين، والمنافقين، اهتبلوا أمر الله الحكيم العليم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام؛ للتَّلبيس على النَّاس، وبلبلة الدّولة الإسلاميّة، وإعاقة تزايد عدد المسلمين.
وكان القرآن الكريم قد أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلم بما سيقوله السُّفهاء، وبالجواب عن إفكهم، وفي هذه الآيات مصداق لنبوته عليه الصَّلاة والسَّلام، ووصف للمرجفين بأنَّهم سفهاء وإن بدا منهم العقل والرَّزانة، وتنبيه المؤمنين إلى التَّفطن والاستعداد بالحجَّة لما سيورده المخالفون.
واليوم، ولإحداث زوابع سياسيّة، تثار من جديد مسألة تدويل الحرمين، وهي قضيّة تلاعبت إيران بعواطف المسلمين حولها، وحاول معمَّر القذّافي استخدامها في خلافه السّياسي مع السّعودية، ووالله لو لم يكن فيها من بلاء إلّا الوقوف في صفٍ واحد مع الخميني وأشياعه، والقذّافي وأضرابه، لكفاها من بليّة، ورزيّة، وخزي، يأنف منها المسلم السنّي العربي!
وأعجب ممن ينساق خلف هذه المخطّطات التي تحركها أيدي العبث السِّياسي إذا هاجت، وتطفئها إذا رضيت! فكيف يأمن المسلم على شؤون الحرمين من التَّدويل؛ بينما لم تستطع دول المسلمين مجتمعة، أو عبر منظمتها، إقامة مؤتمر سنوي لقادتها يحضره المئات فقط؟ بل لم تنجح في ترتيب مسابقات رياضيّة؟ وأمّا الدّفاع عن القدس، والمحتلين، والمهجَّرين، والمنتهكين، فحكاية أخرى؛ تروى بكلمات حزينة ذليلة!
وهل يرضى عامّة المسلمين أن يُلعن الشّيخان بجوار الكعبة؟ وهل يقبل المسلمون سماع خطيب سوء ينعق بجوار الحجر الأسود، أو في مسجد نمرة؟ وهل يوافق المسلمون على ظهور الشّرك بجوار قبر سيِّد الخلق؟ وهل سيصمتون عن البدع المغلَّظة في الرّوضة الشَّريفة؟
وهل يتمنّى أحد عودة محاريب المذاهب بعد أن صارت واحدة، ونحن أمّة واحدة؟ وقد ابتلي المسجد الحرام بأربعة محاريب، فأنهاها الإمام سعود الكبير عام 1218، ثمَّ عادت من جديد، وكتب الله نهايتها وللأبد -بإذن الله- بأمر من الملك عبد العزيز، وتمَّ التّنفيذ على يد الملك سعود عام 1376- وهذه التّواريخ من ذاكرتي-، وإنَّ دعوة التَّدويل تتضّمن عودة المحاريب الثّمانية وليست الأربعة، وياله من شتات، وفرقة، وأحزاب!
ومن أخطل الشُّبهات المقارنة مع الفاتيكان، والتَّشبيه بها، فالفاتيكان دولة مستقلّة عن إيطاليا، ومع ذلك فالكثرة فيها للطّليان، وللكرسي الرَّسولي الذي يعتليه البابا مكانة عالية لدى النَّصارى الكاثوليك، وليس لدينا أهل الإسلام مثله والحمدلله، فديننا غير كهنوتي، وأشبه "المسلمين" بالكهنوت البابوي، أصحاب ولاية الفقيه؛ فلا عجب أن ترتفع عقيرتهم بالمطالبة بمثله؛ وحينها لن تقوم للمسلمين مناسك حجٍّ أو عمرة، لو بلغوا مرادهم لا قدَّر الله، فأسلافهم سرقوا الحجر الأسود، وهم مع سابقيهم قتلوا الحجَّاج في الموسم، وفي الطَّريق إليه!
ولأنَّ الإمام الأعظم في عصرنا غير موجود، وأقطار المسلمين متمايزة، فمن المصلحة الشّرعية والواقعيّة، أن تكون إدارة الحرمين مرتبطة بمن يحكم مكة والمدينة، وهذا أمر يتوافق مع المنطق، ويجري مع طبيعة الأمور، ويتسق مع التَّاريخ، ويتلاءم مع الجغرافيا، ولا يقوى صادق مع نفسه على تسويغ خلافه البَّتة. وقد جعل الله بيته العتيق "عتيقًا" من السّياسة وحبائلها، وقبض نبيه في المدينة، ليخلِص قاصد الكعبة النّية إليها دون أيّ شيء آخر؛ ولو كان السّلام على سيّد ولد آدم، فكيف برفع الشّعارات؟
ومن الإنصاف أن نقول بأنَّ الحكومة السُّعودية، تصرف أموالاً طائلة لصالح الحرمين، وتنفق جهودًا هائلة لأجلهما، وهي -فيما أعلم- تقبل أيَّ مقترح بخصوص المقدَّسات والمشاعر لا ينتهك سيادتها، بل إنّها تتعامل مع الموضوع بانفتاح كبير، وعناية بالغة. ولازالت حبال التّواصل ممدودة، ومتينة، سواء عن طريق القيادات العليا، أو عبر وزارة الحج والعمرة، أو رئاسة شؤون الحرمين، أو معهد أبحاث الحج، أو أيّ جهاز حكومي له عمل متقاطع معها.
وأيُّ ترتيب دنيوي، أو تنظيم إداري وأمني، قابل للنِّقاش والمداولة مع الأجهزة الحكوميّة، التي تسعى لما تراه محقّقًا لصالح الحرمين وزوّارهما، وكانت مقترحات المسلمين ولازالت، ترد وتجد آذانًا صاغية، بغضِّ النّظر عن قبولها من عدمه.
وأما الشُّؤون الدِّينية، فلم تجبر السُّلطات أيَّ مسلم أن يؤدي الحجَّ على مذهب أحمد بن حنبل، ولم تلزم العمَّار بإتمام النُّسك وفق اجتهاد أهل الحديث، فلكلِّ ناسكٍ نسكه، ولكلِّ زائرٍ ما يريده، وفي جنبات الحرمين والمشاعر، لا تخطئ الأذن والعين، أدعية الشِّيعي، وتمايل الصُّوفي، وسدل الأباضي، وأقسم بالله غير حانث ولا مجامل، أنَّ هذا التَّنوع بسماحة؛ لن يكون لو صارت الإدارة جعفريّة اثني عشريّة!
والذي يأمله المسلمون في الحرمين والمشاعر، تسريع إنجاز المشروعات، وتسهيل الوصول إليها عن طريق السّفارات والمنافذ، ومراقبة الخدمات والأسعار، وتحرير الخطب من أيِّ محليّة، وتطهير المقدَّسات والمشاعر من البدع والمنكرات، خصوصاً الظَّاهرة والكبيرة، وبعد ذلك وقبله وخلاله؛ فغالبهم مع المملكة قلبًا وقالبًا، ويسألون الله لها التّوفيق، والحفظ، ودوام البركات.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *