-->

الموصل القديمة.. أكثر من 6400 جثة متفسخة تنذر بكارثة صحية


بعد أكثر من ستة أشهر على انتهاء العمليات العسكرية فيها، تعيش مدينة “الموصل” كابوسًا يحبس أنفاس سكانها، فرائحة الجثث المتراكمة تحت ركام المنازل؛ تجعل هذه المدينة بيئة حاضنة للأوبئة والأمراض التي تهدد سكانها، لاسيما في ظل انعدام الخدمات الطبية والمستشفيات، وغياب الكوادر الصحية، أرقام تقدر بالآلاف لجثث لا تزال تحت الأنقاض، وعجز حكومي عن إزالة هذه الجثث التي تقبع تحت ركام المنازل، ومتفجرات وألغام وسيارات مفخخة لم يتم تفكيكها تملأ الشوارع وأزقة أيمن “الموصل”، لتنذر بكارثة تزيد من مصائب سكان هذه المدنية المنكوبة.
آلاف الجثث تحت الأنقاض
حيث أكد رئيس لجنة انتشال الجثث في بلدية “الموصل” “دريد حازم” في حديثه لـ”وكالة يقين” عن انتشال 2600 جثة لمدنيين، فيما لا تزال أكثر من 6400 جثة تحت الأنقاض بحسب إحصائيات أولية، مبينًا أن هذه الأرقام تم تعدادها من خلال بلاغات الأهالي عن مفقوديهم، فيما تبقى أرقام إضافية مجهولة لأشخاص قضوا في منازلهم لم يتم التبليغ عنهم.
وكشف “حازم” عن وجود ما يقرب من 3000 جثة لضحايا العمليات العسكرية في المدينة القديمة، وتحديدًا على ضفاف نهر دجلة، مشيرًا إلى تعرض هذه الجثث للتفسخ والتحلل بسبب بقائها مدة طويلة، كما حذر من استمرار إهمال هذه الكارثة التي تهدد المدينة بانتشار أمراض وبائية خطيرة، مثل: مرض الطاعون وغيرها من الأمراض التي تهدد سكان المدينة، خصوصًا مع قرب فصل الصيف، الذي تنتشر فيه الحيوانات والقوارض التي من شأنها نقل الأمراض بصورة سريعة إلى الأهالي، وأضاف: نطالب المنظمات الدولية والحكومة والجهات المختصة بمعالجة هذه الظاهرة التي تعاني منها “الموصل”، والتي تهدد عودة الأهالي إلى مدينتهم.
وتدعو القوات الحكومية في “الموصل” المواطنين للعودة إلى منازلهم؛ من دون الأخذ بنظر الاعتبار وجود جثث بدأت تتفسخ داخل المنازل وبين الركام، مما يمنع الأهالي من العودة، ويرعبهم من الإصابة بالأوبئة والأمراض.
مخاطر صحية.. وحكومة غير آبهة
خطابات لمسؤولين، وجهود خجولة؛ لإعادة النازحين إلى مدنهم، والهدف هو إجراء الانتخابات بموعدها الذي حددته الحكومة في 12 أيار المقبل، من دون دراسة الوضع في هذه المدن إذا ما كان مناسبًا لاستقبال الأهالي العائدين، بالإضافة إلى بُنى تحتية مدمرة، وانعدام فرص العمل في جميع المدن المُستعادة، لكنّ للموصل معاناة خاصة تزيد المشهد قتامة، فالجثث المنتشرة في الشوارع، وتحت ركام البنايات؛ يجعل من رائحة الموت رفيقًا لسكان هذه المدينة.
“يعيش سكان “الموصل” كابوس الأوبئة وانفجار الألغام والمتفجرات والجثث”
المواطن “مازن العُبَيْدي”، كان يعيش مع عائلته في المدينة القديمة بـ”الموصل“، وقُتل شقيقه بغارة لقوات التحالف أثناء توجهه إلى السوق، وبعد اشتداد القصف على المدينة قرّر مغادرة المدينة، ليسكن في مخيم نزوح تحمّل فيه معاناة نقص الخدمات ومقومات الحياة، لكن مقتل شقيقه جعله يتحمل هذه المصاعب؛ من أجل الحفاظ على ما تبقى من عائلته المكونة من والده ووالدته وزوجته وثلاثة أطفال. وبعد انتهاء العمليات العسكرية في المدينة؛ قرر “العُبَيْدي” العودة إلى مدينته، والتخلص من معاناة المخيم التي لم يستطع التعود عليها، إلا أن ركام مدينته منعه أصلًا من الدخول إليها، فاستأجر منزلًا في أيسر “الموصل”، وفي محاولة لوالده الذهاب إلى منزلهم القديم، الذي حولته غارات الحرب إلى ركام؛ ليرى ماذا حل بالمنزل الذي قضى حياته لبنائه وتكوينه، لكنّ الألغام المنتشرة في شوارع “الموصل”، والتي لم تجد من يفككها؛ حالت دون وصول الرجل المُسِنّ إلى منزله، وأثناء تجوله في بقايا أحياء المدينة القديمة؛ انفجر لغم على “أبي مازن” ليفقده قدميه.
وتحظى مدينة “الموصل” بإهمال حكومي استثنائي عن بقية المدن، فنتيجة هذا الإهمال هو الموت المحقق لكل من يقترب من أزقة المدينة القديمة المليئة بالألغام والمتفجرات، هذه الأزقة التي تفوح منها رائحة الجثث المتفسخة.
مناشدات الأهالي لم تجد لها صدى
ويعيش سكان “الموصل” كابوس الأوبئة وانفجار الألغام والمتفجرات والجثث، وتحول إلى كابوس يقظة يلاحق الأهالي طول اليوم، كما انتقل هذا الكابوس إلى النازحين في المخيمات، حتى أصبحوا يخشون العودة إلى منازلهم ومدينتهم؛ بسبب وجود الجثث التي تنذر بكارثة بيئية وصحية خطيرة، علاوة على وجود المتفجرات وبقايا الحرب في كل حي وشارع بالمدينة القديمة
“خسر العراق خسائر كبيرة نتيجة العمليات العسكرية، وتصل إلى 100 مليار دولار، ذهبت لأغراض التسليح“
المواطن “أبو علاء”، كان يملك محلًا في الجانب الأيمن من المدينة، إلاّ أن ركام هذا الجانب وسوء الأوضاع فيه اضطره للذهاب إلى الجانب الأيسر، واستئجار منزل لحين إعادة تأهيل منطقته، وتحدث لـ”وكالة يقين” عن حال منطقته قائلًا: “لم استطع الدخول إلى شارع بيتي، منعتني القوات الحكومية من الدخول ولا أعلم لماذا، منزلي مدمر بالكامل بحسب الأخبار التي تلقيتها من بعض الأصدقاء والجيران، وبعضهم أكدوا لي أن جثثًا لعائلة سكنت في منزلي أثناء غيابي عنه؛ لا تزال تحت ركام المنزل”.
وناشد “أبو علاء” الجهات المختصة لإزالة الجثث من الشوارع، ومن تحت ركام المنازل، مطالبًا إياهم التخلي عن انشغالهم بالانتخابات، وبمؤتمر الكويت الذي هرول الجميع لحضوره، ولم يقم مسؤول بزيارة هذه المناطق التي تشهد كارثة إنسانية لا نظير لها، مؤكدًا أن الجهود الحكومية خجولة في هذا الجانب، وأن الأهالي اضطرت لإزالة ركام منازلها، كاشفًا عن منع القوات الحكومية الأهالي من الوصول إلى هذه المناطق من دون تبرير، معبّرًا عن استغرابه لهذا الإجراء الذي يدل على وجود كوارث في هذه الأحياء؛ لا تريد الحكومة الكشف عنها.
وخسر العراق خسائر كبيرة نتيجة العمليات العسكرية، وتصل إلى 100 مليار دولار، ذهبت لأغراض التسليح، وصيانة المعدات الحربية، وفاتورة مشاركة ما يُسَمَّى بقوات التحالف في العمليات العسكرية، لكن الجزء الخفي هو حجم المبالغ التي صرفته الحكومة لدعم الميليشيات التابعة لها، والتي تنضوي تحت قيادة قائد الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”.
هدر الأموال على التسليح والميليشيات.. والمدن المدمرة تُعاني
ومنذ انخراط ميليشيات “الحشد الشعبي” في العمليات العسكرية مع القوات المشتركة؛ والعراق يدفع فاتورة تسليح وتمويل هذه الميليشيات، فضلًا عن الميزانيات الخيالية التي ُصِرَفت على تسليح الجيش ومختلف الصنوف القتالية، والتي اتبعت -وبمساندة التحالف الدولي- أسلوب الأرض المحروقة في أغلب المعارك التي دخلتها؛ بحجة استعادتها من “تنظيم الدولة”، بينما يفترش النازح خيمته، وينام فوق وحل الأمطار؛ يحلم بغطاء يحمي جسده من برد الشتاء الذي يفتك به.
“يتساءل مراقبون: كيف تُمارَس الديمقراطية ولا يزال سكان “الموصل” يبحثون عن مفقوديهم؟”
وتتجاوز “إيران” على حقول نفطية بلغت 17 مليار دولار، أي: نحو 14% من إيرادات النفط السنوية للعراق، إضافة إلى مساعدات بالمليارات قُدِّمَت إلى “إيران” في أزمتها الاقتصادية، من خلال المصارف الأهلية، ومشاريع غسيل الأموال، وتسهيل الاستيراد من “إيران”؛ حتى أُغْرِقَت الأسواق العراقية بالبضاعة الإيرانية، من دون أن تقدم الحكومة مساعدة حقيقية لشعبها عمومًا، وأبناء المدن المدمرة خصوصًا، فلا حرمة لحي نازح، أو ميت تحت الأنقاض في انتشال جثته ودفنها واحترامها.
ولم يُثِرْ اهتمام الحكومة ما شهدته مياه دجلة من تلوث كبير؛ بسبب تحلل الجثث فيها، والروائح المنبعثة من الجثث المتحللة تحت المنازل المُدمّرة، لكنّ تأجيل الانتخابات سبّب أزمة برلمانية كبيرة وردود أفعال غاضبة، متناسين استحالة حصر سكان المدن التي شهدت معارك، والذين يسكن أغلبهم المخيمات، أو هاجر بعضهم خارج العراق، أو نُسِيَت جثث بعضهم بين الركام، وإذا بالرائحة المنبعثة منها تُذكّر بوجود مواطن يملك حق الدفن تحت هذا المنزل، أو ذاك الشارع.
ويتساءل مراقبون: كيف تُمارَس الديمقراطية ولا يزال سكان “الموصل” يبحثون عن مفقوديهم؟ وكيف تُجرى الانتخابات من دون تعداد سكاني من الاستحالة إجراؤه، وآلاف الجثث لا تزال تحت الأنقاض من دون معرفة هويتهم، أو محاولة البحث عن ذويهم، واستخراج بيانات وفاة لهم؟
إصرار على إجراء الانتخابات وجثث تحت أنقاض البنايات
إلى ذلك واجه قرار الحكومة بإجراء الانتخابات في الثاني عشر من أيار المقبل معارضة كبيرة من الكتل السنية؛ بسبب وجود أعداد كبيرة من النازحين لا يزالون خارج مدنهم، إضافة إلى وجود آلاف الجثث لا تزال تحت الأنقاض، ولم يتم حصر أعدادها، أو التعرف على هويتها، أو محاولة إخراجها من بين الركام.
“ها هي أم الربيعين تعيش خريف الجثث المتعفنة لتحوّل نسمات هوائها إلى رائحة يصعب استنشاقها”
ويرى الخبير القانوني “منير العزاوي” في حديثه لـ”وكالة يقين”، أن هذه الخطوة التي تنوي الحكومة القيام بها بأنها لا تمثل الديمقراطية التي تعبر عنها الانتخابات؛ فوجود مفقودين وجثث مجهولة ونازحين؛ يجعل هذه الانتخابات غير شرعية، متسائلًا عن كيفية إجراء انتخابات من دون حصر أعداد الناخبين، وأكد الخبير القانوني أن هذه الخطوة هي بوابة لتزوير الانتخابات من خلال إدخال أسماء المفقودين في سجلات الناخبين وتزوير أصواتهم، محذرًا من تداعيات هذه الخطوة على المصالحة الوطنية داخل المحافظة.
وطالب “العزاوي” الحكومة الانشغال بتحسين واقع هذه المدينة وإيجاد حلول فعلية لهذه الكارثة، بدل الانشغال بالانتخابات، والحفاظ على المناصب التي تجلب لهم -بطبيعة الحال- مزيدًا من الأموال والاستثمارات واستغلال النفوذ، وأشار “العزاوي” إلى انشغال الحكومة بمؤتمر الكويت، والإسراع للتوجه له، والحصول على استثمارات تعود بالفوائد الكبيرة لهم، من دون أن يتجه مسؤول واحد إلى أيمن “الموصل”، والوقوف على واقع هذه المدينة المنكوبة.
من جهته طالبَ مدير قسم عمليات دائرة صحة نينوى “حسن رازق” -عبر حديثه مع “وكالة يقين”- بتشكيل غرفة عمليات تُنَظِّم نقل الجثث وإزالتها؛ بسبب ما تسببه من أمراض، كاشفًا عن وجود رائحة تنبعث من المنازل في المدينة القديمة، والتي -بطبيعة الحال- تتسبب باختناقات وصعوبة في التنفس.
وها هي أم الربيعين تعيش خريف الجثث المتعفنة لتحوّل نسمات هوائها إلى رائحة يصعب استنشاقها، فسكان هذه المدينة تحول البعض منهم إلى جثث متعفنة تحت أنقاض منازلهم، أما البعض الآخر فقد تحول إلى مواطن ينتظر الموت بوباء أو مرض أو ينتظر دوره بتفجير سيارة أو لغم مزروع في الطريق يشهد نسيان المعنيين، أو تناسى من يريد تدمير هذه المدينة وأهلها.
المصدر:وكالة يقين

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *