-->

و انتظرنا الوفاء نعشا.


و لا يموت الوفاء للوطن بوفاة حامله .. بل يشع نبراسا يهدي سبل الثوار ما ظلت الأوطان أسيرة . 
هنا.. بقاعة مطار هواري بومدين الشرفية.. تجمع الرفاق بانتظار نعش لا يشبه غيره رغم قواسم الوطنية و الإباء الكثيرة .. نعش البخاري و أي نعش .
هنا .. شهد هذا الأديم وقفات الرجل المنهك بأسفاره الطويلة ،الجلد بقضيته العادلة الكبيرة.. الرجل الذي قضى ثلثي عمره حاملا وطنه خفاقا على كتف و روحه نعشا على كتفه الأخر.. الوطن أو الموت دونه.
كان يمر من هنا.. و قد شق بحارا و تخوم و عبر سموات و بروج .. في رحلة مستمرة بين معقل رفاق القضية و معقل حل و ربط كل قضايا العالم.. حاملا قناعاته، خلاصاته، استشاراته و آماله، كان يجعل من السفر -العذاب- مطية للصبر و المسير طويل.. و يجعل من الغربة و البعد و فراق الوالدين سفر توحيد و إخلاص .
ذات يوم قال لي: أتمنى أن اتولى مهمة تسيير ولاية من ولايات المخيم، و لتكن أوسرد .. أريد ان أكون أقرب لوالدتي و قد بلغت من الكبر عتيا.. أريد تأدية واجبي تجاهها.. أجبته بأنه عليه احتساب بعده عنها، فالوطن في حالتنا هذه قد يصبح أحق بنا من والدينا.
كل الطرق تؤدي للشهادة في سبيل الوطن.. الموت أمام فوهة مدفع أو الموت على منصة محفل دولي، أين ما كانت مواجهة العدو فتلك ساحة جهاد.. و كان البخاري فارس الدبلوماسية الصحراوية في أقصى بقاع الأرض.. حيث يفصله عن وطنه و أهله بحار ظلمات عدة.. كان وحده حيث لا يمكن للمرء أن يكون وحده إلا أن يكون شجاعا مقداما، صبورا محتسبا.
كان البخاري شفافا واضحا، صريحا صدوقا، كان منضبطا كتوما، كان يقدس قضيته، و يعي مسؤولية أنه من رجالها العظام. 
إن أكثر من ربع قرن قضاه البخاري بنيوريوك، ممثلا لدولته و ثورته بأكبر و أهم منصة دولية، حيث لا مكان هناك للضعفاء، وحيث تتضاعف أذرع العدو لتصبح اخطبوطا عملاقا. يلتف حول عدالة قضيتنا من كل جانب، هذا الربع قرن و أكثر خير شاهد على حنكة رجل مؤمن موقن بعدالة قضيته و حتمية انتصارها،ربع قرن شاهد على الصبر كما هو شاهد على النزاهة، الفطنة و اليقظة، كان عصيا أن تنال منه سهام الابتزاز أو نبال الإغراء، كان يعيش الانتصار على أنه محطة لما بعده و يعيش الخسارة على أنها كبوة متجاوزة.. لكن لا بديل عن الوطن.
لا مفر من الموت.. و طعم الموت في أمر عظيم كالذي عانق البخاري و اعتنق لا يشبه طعمه في أمر حقير كالذي هوى بكثر إلى دهاليز الخيانة و الردة.. طعم الموت يختلف حسب الخواتيم و إن أقر المتنبي قبلنا تشابهه.. و خاتمة البخاري نصاعة مبادئه و عظمة وفائه لشعبه و قضيته.
إلى الفردوس يا شهيد . 
النانة لبات الرشيد

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *