-->

365 يوم على الفاجعة .. عرفان الجميل شيمة الأرواح النبيلة ..

“ .. أبنائي، نعم أبنائي، اسمحوا لي أن أتخلى عن الرسميات في هذه اللحظة، ليس لديّ الوقت لأمهد.. إنها الشهادة، وأرجو أن تسامحوني على هذا الخبر، لكن تفصلنا دقائق على وقوع الطائرة.. لا تنسوا الشهادتين الله يحفظكم” .. 
كانت تلك أخر كلمات قائد الطائرة قبل سقوطها بلحظات وهذه الشهادة هي إهداء الى الشعب الجزائري من إنسان لا ينكر الجميل .. وأما أبناء وطني الذين رحلوا في ذلك اليوم فقد كتبت عنهم جميعا واحدا واحدة كل بإسمه وشاركت عائلاتهم تلك الأيام الحزينة ويمكن العودة الى قصصهم جميعا هنا في صفحتي المتواضعة هذه .. 
*يقال ... " .. أولئك الذين لا يعلمونك الطيران .. يعلموك كيفية السقوط بشكل أسرع .. " ..* 
عندما جئت الى هذه الحياة .. خرجت في منفى .. وقبل ذلك كان المنفى ملجأ آمنا لعائلتي التي هجرت من ديارها وأرغمت على النزوح ليس خوفا من إجتياح المعتدي بل رغبة في الحياة الكريمة وإن بعيدا عن الوطن المحتل وأملا في ان ينتصر الحق يوما ما لتعود العائلة الى ديارها حرة كريمة بعد ان ينجلي الظلام .. 
بعد سنوات وعندما كبرت رحلت ركائز العائلة وغادرت جدتي لأمي وجدتي لأبي ثم جدي لأمي هذه الدنيا وأما جدي لأبي فقد رحل قبل ميلادي بسنوات .. كان كل رحيل مؤلم .. كان كل رحيل خسارة .. لكن الشيء الوحيد الذي لم يخسره الصحراويون في المنفى رغم كل الخسارات الكبيرة والصغيرة طيلة عقود النضال رغم كل المعاناة والآلام هو هذا الإحساس الرائع الذي يسمى الكرامة .. 
*الجزائر .. او ذلك البلد الذي منحنا كل شيء ولم يسلبنا الكرامة ..* 
في عالم ظالم متقلب قد يسلب منك كل شيء وقد يمنحك احدهم فيه كل شيء في مقابل ان يسلبك كرامتك تبقى الجزائر البلد الوحيد في العالم الذي يمنحك كل شيء ليعزز كرامتك وثقتك بنفسك .. تبقى الجزائر البلد الوحيد الذي يمكنك فيه ان تولد حرا وتكبر حرا وبين ميلادك وموتك ستعيش حرا دون ان تشعر بأي إهانة او تغزيم او ظلم ودون ان تشعر بغربتك عن بلدك او أهلك مهما طالت .. 
*الطائرة التي ركبها الطلبة والمرضى والاطفال الصغار والنساء والشيوخ .. هي نموذج لإنسانية الجزائريين وكرمهم ..* 
ركبت الطائرات الجزائرية عدة مرات منذ كنت صغيرا متوجها أحيانا الى بلدان اوروبية في إطار برنامج عطل في سلام وأحيانا الى مدن جزائرية مطلة على السواحل في اطار نفس البرنامج لكن قصتي مع الطائرة العسكرية كانت قد بدأت منذ دخلت الجامعة ولأستغلها أخر مرة قبل الفاجعة شهر أكتوبر الماضي قادما من مدينة قسنطينة نحو مطار تندوف .. 
كنا جميعا نركب تلك الطائرة ذهابا وأيابا ومجانا وأنا شخصيا ركبتها عشرات المرات وهذه الطائرة التي سقطت تحديدا ركبتها عدة مرات وأتذكر جيدا وجه قائدها البطل إسماعيل دوسن وقتها لم أكن اعرف إسمه .. أتذكره جيدا وهو يمر بيننا متوجها الى قمرتها يلقي علينا السلام ويبستم دون أي تكلف او غرور او شعور بالإزعاج .. 
لقد كنا نركب طائرات هذا البلد المضياف قبل الأشقاء الجزائريين .. نجد أماكننا محجوزة في المقدمة يرحب بنا طاقم الطائرة .. " .. اهلا إخواننا بوليساريو .. " .. يساعدون الضعفاء والنساء والشيوخ في حمل أمتعتهم صعودا ونزولا .. لا يمكن لأي منا ان ينكر او ينسى تلك المشاهد التي ستظل حاضرة في الذاكرة الجماعية للصحراويين الذين لا ينكرون جميل هذا الشعب المضياف ولا يمكنهم ان يفعلوا ذلك ولن يفعلوه ابدا .. 
*حتى رئيس الجمهورية كان يركب الطائرة مع الطلبة والمرضى حتى لا يكلف الخزينة سنتيما واحدا ..* 
وأتذكر جيدا وعدة مرات كيف كنت أتفاجأ برئيس الجمهورية الراحل محمد عبد العزيز مسافرا معنا على نفس الرحلة .. كان يصعد وينزل دون تكلف أبدا وكأنه واحدا منا وكان يسلم علينا وعلى الإخوة الجزائريين في نفس الطائرة كما كان يلقى كل الاحترام من طاقم الطائرة الذي يقدم له التحية صعودا ونزولا وهو الشخص المتواضع الطيب الذي لا انسى كلمة قالها لنا ذات مرة وهو يودعنا بمطار قسنطينة عندما نزلت ومجموعة من الطلاب وهو كان سيكمل الرحلة الى الجزائر وبعد ذلك الى بلد اوروبي لحضور مناسبة معينة .. لقد قال لنا في ذلك اليوم على أرضية المطار بالحرف .. " .. إكثر خير الجزائر نجوا في طياراتها .. يقراو اولادنا في مدارسها وجامعاتها ويدواو مرضانا في مستشفياتها نحن شعب ما ينكر الخير .. " .. ثم ودعنا وهو يوصينا خيرا بأشقاءنا الجزائريين طالبا منا ان نبلغهم سلامه .. 
*وسقطت الطائرة وإختلطت دماء الشعبين ..* 
وبعد كل تلك الذكريات الجميلة التي صنعتها تلك الطائرة سقطت أخيرا ولتخلط دماء الشعبين الشقيقين وكان الحزن كبيرا لكن الفخر كان عظيما بأن كان العزاء واحد والحزن واحد عندما فقد الشعبين وفي نفس اليوم وفي نفس الفاجعة مجموعة من خيرة أبناءهم .. 
لقد كتبت عن قصص الصحراويين الذين كانوا على متن تلك الرحلة وكلهم ناس بسطاء من المرضى والطلبة وبعض الموظفين في الدولة الذين ركبوا تلك الطائرة متوجهين الى عائلاتهم كما كانوا يفعلوا في كل مرة .. 
لقد فقدت الجزائر الشقيقة أيضا كوكبة من خيرة أبناءها بينهم جنود وعائلات .. نساء وأطفال .. وهي الفاجعة التي هزت الضمير العالمي وتفاعل معها الإنسان في كل بقاع العالم ..
*الشعب الصحراوي يبكي أيضا على إخوانه الجزائريين الذين أستشهدوا في نفس الرحلة ..* 
وشخصيا رأيت الكثير من القصص التي تدمع لها العين .. قصص الكثير من الشباب والعائلات والأطفال الجزائريين الذين رحلوا في ذلك اليوم الحزين .. رأيت عائلات تبكي .. أم على إبنها وأب على إبنه .. رأيت أطفالا يبكون على أباءهم .. رأيت خطيبة تبكي رحيل خطيبها الشاب الذي كان يعدها بالزواج قريبا .. كانت قصصا حزينة تابعناها جميعا على شاشات التلفزيونات الجزائرية كما صنعت مشاهد دفن الجزائريين لأبناءهم صورا أخرى جميلة تختلط حين رأيتها الدموع بالفخر بهذا الشعب العظيم الذي نكن له كل الإحترام .. 
وبإختصار .. شكرا للجزائر على كل شيء .. لن ننسى جميلكم .. لن ننسى طياريكم وطائراتكم التي تنقلنا على متنها مجانا متوجهين الى مقاعد الدراسة في مدارسكم وجامعاتكم والى العلاج ايضا في مستشفياتكم .. لن ننسى الأمن والآمان الذي شعرنا به في مدنكم وقراكم .. لن ننسى إحتضانكم لأبناءنا الصغار ليستمتعوا بسواحلكم وقت الحر .. لن ننسى مساندتكم لنا في كل شيء .. لقد كنتم السبب في صنع الكثير من أفراحنا وعندما حل الحزن شاء القدر ان نشتركه معا .. لقد كنتم ذلك الصديق الذي يوجد وقت الضيق .. وسيظل كل ذلك دينا في رقابنا الى ان يكون بمقدورنا رد ولو القليل منه ذات يوم .. 
الطائرة تشبه الطائر .. وقصة كل إنسان في هذه الفانية تشبه الإثنين معا .. الطائرة والطائر .. فالطائر يحلق في السماء وطوال حياته يظل يصنع الصور الجميلة محلقا عاليا فاتحا جناحيه ولكنه ويوما ما سيعود الى الأرض ليستقر .. كذلك هي الطائرة .. وكذلك هو الإنسان فمهما حلق بأحلامه عاليا فلابد ان يستقر أخيرا تحت التراب ..
أستحضر الذكرى راجيا من الله ان يتقمد شهداء الشعبين الجزائري والصحراوي الذين غادرونا في ذلك اليوم الحزين بواسع رحمته ولطف مغفرته وان يلهمنا جميعا في غيابهم الأبدي جميل الصبر .. 
*عبداتي لبات الرشيد*

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *