قصة قصيرة : "أسيرة في حجرة الدرس"
بقلم: عيشة ببيت
ظهر ذو الشارب العريض والبطن المستديرة، استأذن من المعلم بابتسامة بدت خبيثة فأذن له هذا بمثلها، نادرا ما يفعل أحدهم ذلك وإن فعلها لا يدخل القسم؛ بل يظهر مثل الشبح عند الباب فيهرول إليه المعلم، فيتنفس التلاميذ للحظات هواء حجرة درس بدون معلم.
هذه المرة دخل فنظر إلى التلاميذ نظرة باحث، كسر صوته الخشن لحظة الصمت التي بدأتها ابتسامته التي بدت خبيثة، "ايه! أنتِ ستأتين معي.. وأنتِ كذلك!" لم أتفطن إلى أن سبب مناداته لي لا علاقة له بابتسامة ارتسمت على ثغري بعد أن نادى صديقتي.
خرجنا معا فوجدنا أمامنا تلاميذ بينهم وإيانا قاسم مشترك، لكني لم أعرِ ذلك القاسم المشترك اهتماما كبيرا، لكن ماذا قد يكون السبب؟! هل لأني.. لماذا هؤلاء دون غيرهم؟ ظلت الأسئلة تنهمر بغزارة تشبه جسارة أفراد هذه المجموعة في مواقع لها ارتباط بذلك القاسم المشترك.
تبعت المجموعة صاحب الشارب العريض فإذا به مر بعدة أقسام ومن كل قسم يدخله يخرج جسم صغير قبله.. يبدو أن عدد المطلوبين اكتمل، فنزل بنا قاصدا مبنى الإدارة، جلس الرجل في مقعد المدير، لم يكن هو المدير.. لقد كان معلما، لكن ما الذي يجعله يحتل أرضا ليست له؟! فالمقاعد في عرف الجالسين عليها أراض تحت السيادة.. أم أنه أصبح مديرا؟ لكن ما الذي يفعله هذا القصير ذو الشارب العريض واليدين كثيفتي الشعر هنا أيضا إذا لم يعد مديرا؟
لم أفكر كثيرا في ذلك، في النهاية كلهم من نفس الطراز.. هكذا فرضتُ إجابة على عقلي الصغير حتى يكف عن مطاردتي بالأسئلة.
"تعلمون أنكم ارتكبتم خطأ كبيرا" قالها الجالس في مقعد المدير دون مقدمات، واستمر في الكلام "ليقل كل منكم اسمه وعنوانه.. بسرعة".
أدركت إذّاك أننا لسنا في ركن تعارف، وتفطنتُ إلى أن سبب استدعائي لا علاقة له بالابتسامة التي تركتها في زاوية قرب مقعدي الدراسي، أدركت أخيرا أن القاسم المشترك بيني وباقي الأسرى كان السبب..
زمجر صوت أحدهم فقطع خيط تفكيري "سوف تندمون.. إن لم تتوقفوا عن ترهاتكم!! "
انبرى آخر يفسر كلام صاحبه، "سوف نقوم بنقلكم إلى غابات لا يعرف أحد مكانها، وسوف نحولكم إلى رعاة، حينها سيكون عليكم التعامل مع الأبقار.." قطع حبل أفكاره الجنونية قصير القامة كثيف شعر اليدين المنزوي قرب النافذة، قال وهو يجهز على سيجارة: "سوف.. امم.. لنرى سوف نحقنكم بمادة قاتلة" وانفجر فمه بقهقهة مخيفة، واستطرد قائلا: "لا تخافوا لن تعطي تأثيرها إلا بعد أربع وعشرين ساعة، حينها ستكونون على الأرجح نياما".
كان كلامه يدعو للتفكير.. كيف يمكن للإنسان أن يعيش حياة يعرف متى ستنتهي؟ تجربته ستكون مثل تجربة قارئ هذه القصة القصيرة، كحياتنا، لو أنه عرف متى أو كيف ستنتهي..
أعلن صاحب الشارب العريض والبطن المستديرة رغبته في نيل شرف الظهور في صورة الرعب تلك، تحولت ابتسامته التي بدت في القسم مريبة إلى قهقهة هستيرية "سوف نضعكم في شاحنات نقل السمك، لن تستطيعوا رؤية وجهتكم ولن يستطيع غيرنا معرفة مصيركم..." تدخل صاحب فكرة الغابات والأبقار، هو لا يريد على ما يبدو أن يظهر صامتا أراد أن يسجل حضوره الفاقع مثل لون ستائر الغرفة، بعد أن رمقه الجالس في مقعد المدير بنظرة شبيهة بتلك التي يطارد بها الأسرى الصغار.
لاحظت وأنا التي ودعت ابتسامتي قبل خروجي من جحرة الدرس، أن من عرفته مديرا من سنوات أشعل سيجارته الخامسة، وأن المتحدث الأول الذي سألنا عن معلوماتنا الشخصية أتم السابعة في صمت.. بدا مستمتعا بصراع "الأفكار" صراع صاحب فكرة الغابات وصاحب فكرة الشاحنات.
لم أعتد أن أمكث طويلا في غرفة مليئة بدخان السجائر لكني اعتدت قبل الوصول إلى مدرستي، التسلل بين صخور منحدَر يفصل بين شطري المدينة أعلاها وأسفلها، كانت كل صخرة أكبر مني لكن المنحدر لم يكن شديد الانحدار.
اعتدت كذلك على استغلال وقت الخروج من المدرسة لأشكل وباقي أفراد المجموعة، موكبا يبدأ من المدرسة وينتهي بعد تسلق المنحدر بقليل، عند تلك النقطة كنا نلتقي بموكب آخر أفراده أكبر سنا وبنفس مستوى التنظيم.
اعتدت أيضا، بعد انطلاق الموكب، على ترديد شعارات أكبر منا، لكننا كنا ندرك سياقها، كنت أعي أن "لا بديل لا بديل عن تقرير المصير" تتسبب لقائلها في متاعب كثيرة قد يكون أبسطها التعرض للضرب المبرح في الشارع أمام أنظار المارة، كنت أدرك أيضا أن "يا المغرب امرگ عنا خلي الصحرا تتهنا" عبارة تشكل قمة جبل جليد صرخة شعب، فما يختفي تحت الماء كان أكثر بكثير، فلا راحة وهناء لأرض محتلة.
كنت ببساطة أدرك أن هناك أشخاص لا يشبهوننا ولا يتحدثون بلساننا يزعجهم ترديد تلك الشعارات.. يزعجهم وعينا المتقد..
اعتدت على إزعاج أشخاص كانوا يأتون على شكل مجموعات تقل كل منها سيارة كبيرة فينزلون بسرعة خاطفة وينهالون بالضرب على كل من شوهد يكرر الشعارات المزعجة أو اشتبه في أنه له علاقة بالمضروب ولو كان تشابها طفيفا في لون البشرة الذي يميز من يشبهون اولئك الأسرى الصغار.
كل هذا اعتدت عليه، لكني لم أعتد الخروج من حجرة الدرس قبل انتهائه..
قام الرجل الذي سألنا عن أسمائنا أولا معلنا نهاية للتنافس بين صاحب فكرة الشاحنات وصاحب فكرة الغابات، فقال بصوت منخفض: "هيه لا أريد أن يعلم أحد بما جرى اليوم ستذهبون إلى بيوتكم ولن تخبروا عائلاتكم بشيء وستتوقفون عن إزعاجنا.." صمت قليلا فانفجر على غير طبيعة نبرة توقيعه الأخير: "إذا حدث خلاف ذلك سوف تحقنون بمادة قاتلة ونقطعكم إربا وتنقلون في شاحنات نقل السمك دون أن يراكم أحد.. سوف ندفنكم في غابات مهجورة.."
هكذا أظهر أنه أكثر من الآخرين جموحا، فجأة، وفجأة هنا تأخرت على غير عادة القصص القصيرة.. فجأة انطلقت صافرة تؤذن بانتهاء الفترة الصباحية خرج الجميع، وخرج الأسرى الصغار، لكن بقي من كل فرد جزء داخل غرفة المدير، حدث ذلك اليوم شيء غيّر ما اعتادنا عليه، لم يتشكل الموكب المعتاد، تسلق كل منا المنحدر وحده في صمت.. لم يسفر أحدنا عن شجاعة مضمرة أو عن خوف من مصير مجهول لكنه بدا مجنونا.
وصلت وأنا الأسيرة الناجية من جنون المدرسين فأخبرت والدتي بما جرى، فعل بعض رفاقي الأمر عينه، اجتمعت أمهاتنا في بيتنا وقررن تشكيل لجنة تبلغ احتجاجها لإدارة المدرسة وتحيي أفراد المجموعة على إزعاجهم المستمر لذوي الزي الموحد.. بعد اليوم الموالي انطلق الموكب من مكانه المعتاد وفي موعده المعتاد، ولا زال الإزعاج المعتاد مستمرا..
"هذه القصة تحكي جزء من واقعة حدثت لنا سنة 2006 بالمدرسة الابتدائية والتي كانت تتراوح أعمارنا خلالها ما بين 12 و 14 سنة، حاولت أن أروي ما لا تزال ذاكرتي تحتفظ به من تلك الوقائع الأليمة"
عيشة ببيت/مخيمات اللاجئين الصحراويين