-->

صراع الأجيال في السياسة غيره في الأدب، وإذا تماهيا تكون الكارثة.


في السياسة في ظل النظم الديمقراطية يكون صراع الأجيال أهون وأقل صخبا، لأن هناك انتخابات في موعدها ومحددة سلفا في مدتها، ومن ثم يمكن لشباب من الجيل الأحدث أن يتسيدوا المشهد، إذا استطاعوا أن يقدموا للأصوات الانتخابية ما يرونه مناسبا. ومن ثم ليست هناك مفاجأة أن يكسب الانتخابات رئيس مثل ماكرون في فرنسا، أو مثل جاستن ترودو في كندا. وفي كل الأحوال لا يفوز الفائز لأنه من جيل أصغر، لكن لأنه يحمل أفكارا أكثر عصرية، إذا توفرت في من هم أكبر فستفتح أمامهم الطرق أيضا.
في تاريخ الثورات كانت أكبر أسبابها هو الانفراد بالحكم لجيل أكبر، ومن ثم تأتي مرحلة ثبات وجمود بينما الدنيا تتغير، وتنفجر الأجيال الأصغر في وجه الأجيال الراكدة فوق الزمن، المتجمدة في أفكارها.
في البلاد المتخلفة تبدو مسألة إزاحة الأجيال ليست سهلة، وهذا متصل أكثر بطبيعة الحكم الذي يظل فيه الرئيس عشرا وعشرين سنة وثلاثين، إذا استطاع، ومن ثم تكون كل أدواته من البشر ممن هم مثله. والأهم أنه بذلك يصنع دولة شمولية أعلى هرمها لا يصل إليه أحد، ليس بحكم الخبرة أو الذكاء لكن بحكم الولاء المضمون أكثر في من هم من جيله، أو أقل سنا بعشر سنوات مثلا على أقصى تقدير، ومن ثم هم في دائرة جيله. في مثل هذه البلاد يتقدم الأمر أيضا ليسيطر على الحياة الأدبية والفنية، قلة قد لا تكون، وهذا هو الاغلب، الأكثر موهبة. ورغم أن صراع الأجيال في الأدب والغبداع لا تحكمه اعتبارات سياسية إلا أنه سرعان ما ينتصر جيل من الكتابة ليتسيد المشهد، ثم لا يؤمن بأن الأدب ظاهرة إنسانية تمتد إلى كل الأجيال، بل أحيانا يتم تلخيص الحياة الأدبية في شخص. الطريقة الهيراكية نفسها في السياسة.
لم تشغلني هذه المسألة أبدا. لم أوافق أن أصنف نفسي بين أي جيل. ستينيات أو سبعينيات، رغم تصنيفات النقاد وهم بالمناسبة أحرار، لأنني منذ وقت مبكر أرى تصنيف الأدب على أساس شكل الكتابة وليس سنوات العمر. يمكن جدا لكاتب متقدم في العمر أن يكتب متقدما على الشباب في شكل كتابته، أو تناول موضوعاته. وما أكثر ما ناديت بضرورة دراسة الأدب على اساس تطور الأشكال الأدبية، وليس على أساس السنين التي وصل التصنيف فيها إلى خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينيات وتسعينيات إلخ. وما أكثر ما قلت أن تصنيف الأجيال في الأدب يكون مع تطور الأشكال الأدبية، الناجم عن أحداث كبرى تغير شكل المجتمع كله، وهذه لا تقع كل عشر سنوات كأن الأدباء مرضى في مستشفي. ارتباط الهيراركية الأدبية بقرينتها السياسية جعل كتابا يقتربون من السطة الشمولية، فتنفتح لهم الصحافة والإعلام ليتسيدوا المشهد، بينما من يفوقونهم مهمشين وجمالهم في رضاهم رغم ذلك بالهامش. كنت دائما على يقين أنه لا نفي في الآداب والفنون، لكنه النسخ، بمعنى أن الجديد مهما اختلف، له صلة بالقديم، وكل ما يحدث هو اختلاف الشكل الأدبي ويمكن لك ان تستمتع برواية كلاسيكية كما تستمتع برواية حداثية البناء. هل تلغي «الحرافيش» مثلا رواية واقعية مثل «خان الخليلي» أو ثلاثية نجيب محفوظ نفسه.
تصنيف الأجيال في الأدب يكون مع تطور الأشكال الأدبية، الناجم عن أحداث كبرى تغير شكل المجتمع كله، وهذه لا تقع كل عشر سنوات كأن الأدباء مرضى في مستشفي.
المعارك الأدبية مهمة جدا لكن يجب أن يظل راسخا أنه لا يوجد نفي لما قبلها، لأن سر الفن وسحره موجود في كل شكل وكل ما يحدث هو اختلاف طرق ومفردات البناء مع الزمن. لكن هيراركية السياسة، كما قلت، ألقت بظلها على الحياة الأدبية وكما صار بعض الكبار لا يعترفون بمن بعدهم صار بعض الشباب لا يعترفون بمن قبلهم، لأنهم أكبر سنا فقط. وفتحت الميديا مثل الفيسبوك فرصة الشتائم، فكثيرا ما أقرأ من بعض الشباب شتائم مباشرة في الكتاب الكبار أنفسهم بشخوصهم لا بأعمالهم، وتلخصت المعارك في السن وليس في ما يقدم الكبار والصغار من أشكال جديدة. إيماني بأنه لا نفي في الفنون هو الذي يجعلني أقرأ القديم والجديد وأقف أمام لوحات المشاهير من كل العصور وأسمع الموسيقى الكلاسيكية كما أسمع موسيقى الجاز، وهكذا أرحت نفسي من هذه الصراعات غير العاقلة التي تتحدث عن الكتاب لا عن أعمالهم. للأسف بعض الشباب وجد أن شتيمة قدامى الكتاب طريق للشهرة على الفيسبوك. ليس الكثيرون يفعلون ذلك طبعا لكن البعض ولا يدركون أنهم ما داموا يفعلون ذلك سيأتي اليوم الذي يفعل فيه الأصغر بهم ما فعلوه بغيرهم، وحيث لا توجد معارك أدبية حول أشكال الكتابة صارت معاركنا الأدبية حول أي شيء. صارت حول الجوائز مثلا أو النشر أو الوجود الصحافي أو العلاقة بالسلطة، وغيره من الأشكال الزائلة. عندما تقول عن رواية أنها سيئة أو ديوان شعر أو مجموعة قصصية فهذا حقك، لكن حين تشتم الكاتب نفسه فهذا ليس من حقك، بل هو سخافة وانحطاط أخلاقي وقد تبدو شتيمة الكاتب الشخصة جالبة للشهرة، لكن هناك آلاف يقرأون هذه الشتيمة لا تعرفهم ويشفقون على المشتوم ويحتقرون الشتام . لا يعرفهم الشتام كما لا يعرف أي كاتب قراءه. والقراء المجهولون هم زاد كل كاتب حقيقي، وليس من حول الكاتب في مقهى أو جريدة من الكتاب الآخرين. يمكن أن نختلف جميعا حول جائزة، أي جائزة. ويمكن أن تصفها بالسوء لكن أن تشتم الفائز شتيمة شخصية فأمر سيئ . أقول هذا الكلام بمناسبة شتائم شخصية قرأتها على الميديا (الفيسبوك بالذات) في بعض الفائزين بالجوائز أخيرا. أقول لهؤلاء الشتامين إذا كنت موهوبا لا تشتم وعليك بالإيمان أنه في الفن والإبداع عموما لا يوجد نفي، لكن يوجد نسخ كما قلت. فالحركات الأدبية والفنية التي ظهرت في الدنيا تضاد ما قبلها لم تنهي قراءة الأعمال السابقة..
روح الفن والأدب تعبر التاريخ وهذا ما أقصده بكلمة نسخ، أي توالد لا تكرارا. وإذا كان قراؤك قليلين فسيزيدون إذا كنت موهوبا، المهم أن تظل تكتب. وكما يمكن أن تفسد السياسة كل شيء باختصار الحكم والنظام السياسي في آن، فأكبر ما يفسد الأدب أن تظن نفسك هذا الواحد. وإذا كان البعض يفعله فالموهوبون يعرفون أن العالم واسع فسيح الأرجاء. والوجود الأدبي لا يكون بحكم السن لكن بحكم الجديد في شكل الأعمال الأدبية. والأدباء الأصغر سنا ليس عليهم الخروج إلى الميادين كما يفعل شباب السياسة ضد الحكام والمتسلطين، لكن يستطيعون فقط أن يقدموا الأفضل في شكل الكتابة.
 إبراهيم عبد المجيد/ روائي مصري ـ القدس العربي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *