حق الافتخار
في هذه الأيام التي تفرض الذكريات نفسها، ذكريات الرفاق وأسابيع الحماس والحيوية والنشاط الذي شهدته أواخر شهر إبريل وبداية شهر ماي من عام 1973، حين كنا قاب قوسين او أدنى من تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، حين بدت خياراتنا محسومة: الاستعمار لا يفهم إلا لغة النار والحديد. حين اعتمدنا مبدأ الطوعية في الانتماء لاختياراتنا، الرامية إلى تحرير الأرض والانسان من الاستعمار الإسباني، وبناء الكيان الوطني المستقل. حين قررنا الانتظام في جبهة أعلناها شعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، ذات جناحين سياسي وعسكري، ومثلما الانتماء لها طوعي، يكون الانخراط في أحد الجناحين طوعي كذلك.
لم يكن تفكيرنا حينها يأتي من فراغ، بل مستمد من تاريخ شعبنا المقاوم، وواقعنا المعاش، وتجارب شعوب المعمورة، والشرعية التي يحتكم إليها العصر: الشرعية الدولية وحق البلدان والشعوب المستعمرة في تقرير المصير والاستقلال.
تنتفض الذكريات وتتراءى وجوه جيل ـ إناثا وذكورا ـ آمن بمشروع وطني عظيم، وانتشرت عدوى إيمانه في كل ربوع الوطن بل وكل أماكن تواجد الصحراويين وحتى غير الصحراويين في بلاد وقارات نائية بها نفوس تواقة للحرية والانعتاق.
حلم رآه المؤمنون به قريبا، رغم ما يعلمون أنه دونه من مصاعب وتضحيات، وتلقفوه عن بكرة أبيهم، حيث وجدوا فيه ضالتهم المنشودة، فكر ومشروع تفتقت فيه ينابيع الإبداع في مختلف مجالات الحياة، إذ تحررت الأنفس وانتفت المخاوف، وهان كل شيء مقابل تجسيد الحلم وبلوغ المقصد.
اليوم ونحن في إبريل 2020 أي بعد 47 سنة من تلك الأيام التي تبدو كأنها البارحة، يحق لنا كما يحق للأجيال التي تلاحقت في هذا الدرب أن تتساءل وتسأل هل تغير شيء؟ والجواب سيكون بلا تردد، نعم، نعم كبيرة بالخط العريض. لأنه حين بدأ المشروع كان الشعب والوطن في الحالة التي دفعتنا إلى ما قمنا به، دفعتنا إلى الثورة، واليوم أصبحنا موجودين وعلامات وجودنا ملموسة لنا ولغيرنا، نعتز نحن بها ونفرح، وتغيظ أعداءنا وتؤلمهم بل وتقض مضاجعهم.
نعم، يحق لنا ذلك، يحق لنا أن نفخر ونعتز بجبهتنا التي أسسنا من إنتاجنا الوطني، غير مستوردة ولا من إملاء خارجي، وتلك ميزة جعلتها هي الشعب والشعب هي، والانتماء لها هو انتماء للوطن وللشعب، والابتعاد عنها هو ابتعاد عنهما معا. فهي بحق كما كتب عنها المرحوم الاستاذ المفكر أحمد بابا مسكه، البوليساريو روح شعب. وقد صدق رحمه الله في وصفه، لقد حلت جبهة البوليساريو من شعبها محل الروح من الجسد، لذا لا يمكن تصور جسد بلا روح ولا روح بلا جسد.
رائدة كفاح، وطليعة ثورية، وممثل شرعي وحيد للشعب الصحراوي، أثبتت تفردها وجدارتها وأحقيتها بهذه الصفات وهذه الألقاب، ومن حاول المسّ منها ـ أي من الجبهة ـ أو من صفاتها، يجد نفسه أمام حائط حجري، بل يصطدم بصخرة صماء عنوانها الوفاء بالعهد، الإخلاص للخط الذي أخرج شعبنا من الظلمات إلى النور، ومن العدمية إلى الوجود. الخط الذي قال عنه الأديب المرحوم بادي ولد محمد سالم:
خطك يالجمهور النزيه
لمسكم لبنيت ابدمك
ذاك إلى ما وصيتك بيه
أثر مان رافد همك
وإلى وصيت زاد اعليه
انعود الوصاك اعل امّك
إذا، نفتخر بمنجزاتنا التي حققنا بقوتنا الذاتية، والتي هي برهان وجودنا، وحجتنا التي لا غبار عليها، ولا يمكن لأي كان أن يتجاهلها أو يطمسها أو يقفز عليها.
نفتخر ونعتز بجبهتنا أو كما تعودنا أن نقول بتنظيمنا، لأن أي صحراوي اليوم في أي مكان ـ سواء انتمى للجبهة أو لم ينتم لها ـ له الحق في أن يفتخر ويفاخر بـتنظيمه الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، جبهة البوليساريو، التي:
ـ أعلنت الكفاح المسلح وواجهت الاستعمار الأوروبي الجاثم قرابة قرن من الزمن على أرض الوطن، وفرضت عليه التفاوض وتبادل الأسرى، وأقامت الإدارة الوطنية على ما حررت من أرض الوطن.
ـ وحدت الشعب ولمت شمله، وأسست للشرعية الوطنية، وأعلنت الدولة، وأمّنت على الشعب، وخلقت له ظروف استمرار الحياة، من تعليم ورعاية صحية، وإدارة، وتغذية وسكن وغير ذلك.
ـ بنت الجيش ونظمته وأطرته وأوجدت له أماكن للتدريب وحلفاء للدعم والمساندة، وشحذت عزائم مقاتليه للتصدي ببسالة للغزاة وتكبيدهم الخسائر الفادحة وجعلت منه مضربا للأمثال وتجربته وأساليبه القتالية تدرس اليوم في كبريات الكليات الحربية الدولية.
ـ أوصلت صوت شعبنا وكفاحه البطولي للعالم وانتزعت الاعتراف به، وفرضت مكانته بين الأمم، ولم تساوم على حقه في تقرير المصير والاستقلال.
أليس من حقنا أن نعتز بمن صنع هذا؟ أليس اعتزازنا وافتخارنا بكل هذا هو وفاء لشهدائنا الذين تلاحقوا تباعا على درب التحرير مقدمين لنا المثال بالسخاء بأغلى ما لديهم، أرواحهم، من أجل تحقيق ما أنجز والاستمرار والمواصلة لاستكمال المشوار.
قد يقول قائل كل ما قلته صحيح، لكنك لم تتطرق لكل شيء، لأنه هناك أخطاء ونقائص ومطبات وآلام ومعاناة، سببت آلاما تضاف إلى تلك الموضوعية التي سببها الاستعمار والغزو والاحتلال واللجوء. ويضيف آخر، طال أمد اللجوء، وما يعنيه ذلك من شظف العيش، وفرقة الأهل والأحباب، والحرمان من فيء وظلال الوطن والاستفادة من خيراته، وثالث ربما يقول، مللنا من تقاعس المنتظم الدولي ووعوده الكاذبة ووهن الأمم المتحدة وعدم حياد مجلس أمنها.
انشغالات في محلها وتعبير عن حقائق واقع نعلم أنه مرفوض لدينا جميعا ونسعى إلى الوصول إلى ذلك الواقع المطلوب الذي حدده مفجر الثورة، الشهيد الولي في أنه يتمثل في وجود شعب، منظم، موحد ومحترم فوق أرضه، وقادر على حماية نفسه، مما يعني أنه لدينا هدف لا نحيد عنه، هو الاستقلال التام واستكمال سيادة الجمهورية العربية الصحراوية على كامل ترابها الوطني.
أما أخطاؤنا فلن يصححها غيرنا، وخواطرنا لن نجبرها إلا نحن، وآلامنا لن يعالجها غيرنا. والذي يجب الانتباه له والاعتزاز به أيضا هو أن شعبنا بجبهته ودولته، بنى مجدا لكل الصحراويين، يعيش فيه ومنه حتى الأكثر بعدا منا عنه، حتى لا أقول الأكثر عمالة أو خيانة، لأن هذا الأخير يعلم علم اليقين أنه لولا وجود الجبهة والدولة الصحراوية، ولولا كفاح الصحراويين وصمودهم، ما كان لتكون لأي عميل أو خائن أي قيمة ولن يحصل على أي امتياز.
عاشت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.
عاشت الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية
عاش جيش التحرير الشعبي الصحراوي البطل
النصر والحرية لأسود شعبنا وأبطاله وبطلاته في سجون الاحتلال المغربي.
كل الوطن أو الشهادة
مصطفى الكتّاب
25/04/2020