-->

سقوط طليطلة واستنجاد أهل الاندلس بالمرابطين لنجدتهم


في الوقت الذي أسس المرابطون دولة كبيرة في المغرب والصحراء وغرب افريقيا تحت راية واحدة، يقودها الزعيم يوسف بن تاشفين كخليفة لدولة المرابطين بعد وفاة الامير ابو بكر بن عمر، كانت وحدة المسلمين بالاندلس على المحك، بعدما عصفت بها رياح الفتنة واعاصير التمزق والفرقة وتحولت الى كيانات صغيرة وطوائف متعددة، تخوض الحروب فيما بينها على الحكم المبعثر بين ملوك الطوائف، الامر الذي جعل هذا المجد الاسلامي الذي حققه الفاتحون الاوائل لقمة سائغة امام مملكة قشتالة والجيوش النصرانية التي التهمت هذه الدويلات واحدة تلو الاخرى واخضعتها لحكم الصليبيين. 
فتغيرت احوال الاندلس من مركزا للاشعاع الديني والثقافي والحضارة الاسلامية بكل تجلياتها، وبعث نور الهداية ورحمة للعالمين الى واقعا ظلاميا تحكمه زمرة من ملوك الطوائف الغارقون في اللهو والمجون، ويغدقون على ملوك النصرانية بالاتوات والهدايا ويدفعون لهم الجزية مقابل الحماية والحفاظ على عروشهم التي يتهددها الانهيار واستغل ألفونسو السادس ملك قشتالة تلك الأوضاع المتدهورة بالأندلس فأقدم على احتلال طليطلة سنة 478 هـ وانتزعها قسرا من يد القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرتها الجيوش الصليبية من كل جانب، واحكمت قبضتها على المدينة العظيمة التي فتحها طارق بن زياد وكانت القلب النابض والمركز في توجيه الفتوحات الاسلامية، واستقبال الجزية من بلاد النصارى، وإدراكا لاهمية موقعها في بلاد الأندلس، نقل إليها الفونسو عاصمة ملكه، واستتبع سقوطها استيلاءُ الإسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة، يقول بن خلدون: "وانتهز الفرصة فيها (يعني ملك قشتالة) بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف فحاصر طليلة وبها القادر بن يحيى بن ذي النون حتى نالهم الجهد وتسلمها منه صلحاً سنة ثمان وسبعين على أن يملكه بلنسية فبعث معه عسكراً من النصرانية فدخل بلنسية وتملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليلة‏.‏ وسار الطاغية في بلاد الأندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف وأعيا أمره أهل الأندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها‏.‏ ثم نازل سرقسطة وضيق على ابن هود بها وطال مقامه وامتد أمله إلى تملكها[1]". 
هذا المشهد يصور كيف سقطت هذه القلاع الاسلامية الواحدة تلو الاخرى على حين غرة، من اهلها الذين ابتعدوا عن اسباب النصر والتمكين. 
وأمام هذا الواقع الجديد، عقد جمع كبير من أهل الأندلس اجتماعا بقرطبة يضم امراء و قضاة وعلماء من إشبيلية وبطليوس وغرناطة وعموم الاندلس، واجتمعوا بالقاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم، وقالوا له: «ألا تنظر ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وإعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد غلب على البلاد الفرنج، ولم يبقى إلا القليل، وإن دام هذا عادت نصرانية، وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك، قال: وما هو، قالوا: نكتب إلى عرب أفريقية ونبذل لهم إذ وصلوا إلينا شطر أموالنا، ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله، قال ابن أدهم: المرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا، فقالوا: كاتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واسأله العبور إلينا، وإعانتنا بما يتيسر من الجند»[2]. 
وفيما كان المسلمون يبحثون السبل الكفيلة بالحفاظ على ما حققوه لقرون وصلت تلك الحملات الصليبية الى إشبيلية تحت قيادة المعتمد ابن عباد الذي استنجد بدولة المرابطين وارسل كتابا الى يوسف بن تاشفين في غرة جمادى الأولى من عام 479 هـ يطلبه مد يد العون والنصرة، جاء فيها : «إلى حضرة الإمام أمير المسلمين، إنا نحن العرب في هذه الأندلس، قد تلفت قبائلنا وتفرق جمعنا، وتوالى علينا هذا العدو المجرم اللعين أذفنش، أسر المسلمين وأخذ البلاد والقلاع والحصون، وليس لنا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه، وقد سائت الأحوال وانقطعت الآمال، وأنت أيدك الله ملك المغرب، استنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم، لتجوزوا لجهاد هذا العدو الكافر، والسلام على حضرتكم السامية، ورحمة الله تعالى وبركاته»، ولما وصل الكتاب ليوسف بن تاشفين أكرم حامليها، ثم استشار قادته وأمراءه، وأشاروا عليه بعبور الأندلس[3]، بعد أن اقترح عليه وزيره ومستشاره ابن أسبط الأندلسي الأصل، أن يطلب من المُعْتَمِد أن يتنازل عن مدينة الجزيرة الخضراء كي يتصرف بها جيشه بحرية ويتمكن من عبور البحر متى شاء، فأرسل يوسف بن تاشفين رسالة الى المعتمد يقول فيها: «من أمير المسلمين إلى المعتمد بن عباد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد، فإنه وصل خطابكم المكرم، فوافقنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك، وما ذكرته من كربتك، فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك، وإنه لا يمكننا الجواز إلا أن تسلم لنا الجزيرة الخضراء، تكون لنا، لكي يكون إليك على أيدينا متى شئنا، فأن رأيت ذلك فأشهد به نفسك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» فوافق المعتمد وجمع القضاة والفقهاء، وكتب عقد هبة الجزيرة الخضراء للأمير يوسف، وتسليمها له بحضورهم، وكان يحكمها يزيد الراضى بن المُعْتَمِد، فأرسله إليه أمره بإخلائها وتسليمها للمرابطين 
وعاتب احد المقريبن من المعتمد بن عباد على رسالته الى بن تاشفين، مبديا جملة من المخاوف من استلاء بن تاشفين على حكمه، فقال قولته الشهيرة: «لأن أكون راعيا للإبل عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو». 
وأرسل المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس هو الاخر رسالة إلى يوسف بن تاشفين يرثي إليه حالهم وما آل إليه أمرهم وقال: «لما كان نور الهدى دليلك وسبيل الخير سبيلك، وصح العلم بأنك لدولة الإسلام أعز ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، وجب أن تستدعى لما أعضل الداء، وتستغاث فيما أحاط الجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو تطيف بها عند إفراط تسلطها واعتدائها، وشدة ظلمها واستشرائها، ولم يزل دأبها التشكيك والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى نفذ الطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المتن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، وأُضرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم فإنما هم في أيديهم أسرى وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، فيا لله ويا للمسلمين، أيسطو هكذا بالحق الإفك، ويغلب التوحيد الشرك، ويظهر على الإيمان الكفر، ألا ناصرًا لهذا الدين المهتضم، ألا حاميًا لما استبيح من حمى الحرم، وما أحضك على الجهاد بما في كتاب الله، فإنكم له أتلى، ولا بما في حديث رسول الله، فإنكم إلى معرفته أهدى، وفي كتابي هذا الذي يحمله إليكم الفقيه الواعظ، مسائل مجمله يفصلها ويشرحها، ومشتمل على نكت هو يبينها لكم ويوضحها، وقد عولت على بيانه، ووثقت بفصاحة لسلانه، والسلام»، فلما وصلت الرسالة لابن تاشفين أكرم حامليها وطمأنهم، ووعدهم بالإمداد والعبور للأندلس، وفتح باب الجهاد في سبيل الله عندما تسنح الفرصة، وتزول العوائق التي تقف في طريق المرابطين[4]. 
هذه الاحداث المأساوية تركت هزات ارتدادية في الاندلس واقطار الاسلام قاطبة واستيقظ المسلمون على سقوط قلاعهم الحصينة وفي ذلك يقول عبدالله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال: 
يا أهل أندلس حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلط 
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولا من الوسط 
ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات في سفط[5]
بعدما اطمئن يوسف بن تاشفين على الاوضاع في المغرب والصحراء والسودان وتوحيد كل هذه المناطق وضمها الى حضن المرابطين، بدأ تفكيره منصبا على العبور نحو الاندلس وإنقاذ ما يمكن انقاذه من ايدي الصليبيين وجيوشهم التي اجتاحت الاندلس واذاقت المسلمين الويلارت، و جرعتهم مرارة الهزيمة... يتبع 
إعداد : حمة المهدي
ـــــــــــــــ
بعض المراجع
[1] ابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر 
[2] حامد محمد الخليفة (1425 هـ - 2004). انتصارات ابن تاشفين، بطل معركة الزلاقة وقائد المرابطين، موحد المغرب ومنقذ الأندلس من الصليبيين (الطبعة الأولى) صفحة 122 
[3] محمد علي قطب (1427 هـ - 2006). أبطال الفتح الإسلامي (الطبعة الأولى). الإسكندرية - مصر. دار الدعوة صفحة 378 
[4] انتصارات ابن تاشفين، صفحة 102-103 
[5] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - أحمد بن محمد المقري التلمساني، دار صادر - بيروت ، 1968، تحقيق : د.إحسان عباس

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *