-->

تيار المعارضة داخل النظام الصحراوي وبوصلة المصلحة الذاتية؟


كان مؤتمر الشهيد بلاهي الطالب عمر المنعقد ما بين 17 إلى 19 يونيو 1991، استثنائيا بكل المقاييس حيث شكل المراجعة الكبرى لطبيعة النظام السياسي لجبهة البوليساريو، واجرى تغييرات جوهرية في طبيعة هيئاتها القيادية، بتوسيع المشاركة السياسية لتستوعب عددا اكبر من القيادات باستحداث هيئة الامانة الوطنية التي تتكون من 75 عضواً بدلا من اللجنة التنفيذية التي كانت تتشكل من سبعة أعضاء فقط، والمكتب السياسي، الذي كان يتشكل من 25 عضواً، للاستجابة لضغوط المعارضة داخل القيادة السياسية مجموعة حراك 88 التي تقلدت فيما بعد مناصب سامية في الحركة والدولة قبل ان تتحكم في السلطة المطلقة.
جاءت هذه التغييرات الهيكلية في هرم التنظيم السياسي لإنهاء حالة العصيان الذي عكس تجليات الصراع السياسي على السلطة، بين اعضاء اللجنة التنفيذية والمكتب السياسي الطامح لصلاحيات اكبر ومشاركة حقيقية في السلطة وهو ما ادى الى أحداث اكتوبر 1988 التي شهدتها مخيمات اللاجئين، بعد الاستقالة الجماعية التي قدمها عشر وزراء بحكومة المحفوظ اعلي بيبا، ورافقها تحريك لاحتجاجات شعبية ظهرت بالمخيمات، وهو ما دفع بالتدخل العسكري لوقف هذه الاحتجاجات التي حركتها قيادات طامحة في السلطة رغم حالة الحرب وتواجد الرجال في جبهات القتال ضد المحتل الغازي.
وإزاء هذه الوضعية الصعبة التي يمر بها الوضع السياسي داخل التنظيم، في تلك الاحداث امسك الراحل محمد عبد العزيز العصى من الوسط ونفس المسافة بين الفريقين من اجل التوصل الى حل ينهي الاحداث بما يعزز تقوية اللحمة الوطنية، وينهي الجدل بين النخبة السياسية، وذلك باعتباره المسؤول الاول عن ضمان الانسجام داخل التنظيم.
ومع بداية معالجة المشكل اظهرت الجبهة صرامتها في التعامل مع السلوك غير المألوف الذي اختاره بعض اطاراتها في الاحداث وتقديمهم لنقد تصرفاتهم امام الجماهير في ندوات ومهرجانات شعبية.
وقد عالج المؤتمر هذه الاحداث من خلال تحويل كافة صلاحيات اللجنة التنفيذية الى الامين العام للجبهة ورئيس الدولة مقابل توسيع الهيئات القيادية، ما فسح المجال للأمانة الوطنية لجبهة البوليساريو كهيئة موسعة اصبحت الوعاء الحاضن لجميع المتخاصمين والهيئة العليا للجبهة بين مؤتمرين، وتتخذ قراراتها بشكل جماعي وبعملية صهر اللجنة التنفيذية والمكتب السياسي داخل هيئة واحدة هي الامانة الوطنية يكون المؤتمر قد حسم قضية اثارت الجدل والقت بتداعياتها على المشهد الوطني خلال تلك الفترة.
وأعلن المؤتمر القرار الحاسم بوقف إطلاق النار في ظرف دولي وإقليمي حساس بالرغم من المعارضة الشديدة لبعض القيادات العسكرية التي رفضت القرار، واعتبرته تراجعا عن الشعار الذي رفعته الجبهة منذ تأسيسها "بالبندقية ننال الحرية"، لكن الشهيد الراحل وعدد من القادة السياسيين اتفق رايهم على التوقيع على اتفاق السلام ووقف اطلاق النار وبدأت الأمم المتحدة خطوتها العملية الأولى في القيام بواجبها لوضع المخطط الأممي الإفريقي الشهير لحل النزاع في الصحراء الغربية محل التطبيق.
هذه التحولات التي شهدها مسار جبهة البوليساريو خلال المؤتمر الثامن لم تكن بمعزل عما يعيشه المحيط الاقليمي والعالم الخارجي مع نهاية الحرب الباردة، وتقهقر المعسكر الشرقي، وبداية ملامح النظام الدولي الجديد الذي اضفى بظلاله على المسرح الدولي مع بروز القطبية الاحادية من خلال هيمنة الولايات المتحدة الامريكية وظهورها كقوة عظمى، بسطت تأثيرها على المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
حيث شهد الحليف أحداث الخامس من أكتوبر 1988 التي هبّت على الجزائر، في أكبر انتفاضة في تاريخها بعد الاستقلال، وأيضا أول انتفاضة شعبية في تاريخ المنطقة العربية، حيث سارع الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد إلى تقديم دستور جديد للتعديل، من أهم بنوده إقرار التعددية الحزبية، والحرية لوسائل الإعلام، وأعطى الجزائريون بنسبة 92 بالمئة موافقتهم على تغيير الدستور .

اليوم وبعد ثلاثة عقود على تلك الزوبعة التي احدثتها إطارات طامحة في السلطة وفي وقت كان مقاتلو جيش التحرير الشعبي الصحراوي في الجبهات الامامية يخوضون المعارك البطولية ضد العدو الغازي وحلفائه، فجرت قيادة المصالح الازمة داخل المخيمات واججت الشارع ضد التنظيم واللجنة التنفيذية، وبعد المعالجات التي حملتهم الى اعلى هيئات القيادة اصبح هؤلاء منذ ذلك الوقت حريصون على النظام والدفاع عنه وتجريم وتخوين كل من ينتقد سلوكاتهم الغريبة على الثورة واهدافها واصبحت صكوك الوطنية توزع مثل توزيع المساعدات الانسانية واصبحت الزايدة السياسية اسلوبا للمتاجرة بدموع والام شعب يكابد الامرين مطرقة الاحتلال وسندان هؤلاء الانتهازيين الذين حولوا مشروع الثورة الى مقاولة تجارية تدر الاموال والامتيازات، فشيدت الدور والقصور ونقلت العائلات الى الديار الاوروبية اين اشتريت لهم هناك دور باموال الشعب وحولت بعض المؤسسات الى محميات خاصة، يتم التوظيف فيها على اساس الدم والعرق، كل هذه الفوضى شكلت وجه مرحلة التيه التي تمر بها القضية الوطنية في سنواتها الاخيرة.
ومع مجيء الرئيس الحالي ابراهيم غالي الى سدة الحكم حاولت هذه اللوبيات المتوغلة في مفاصل الحركة والدولة والتي بسطت نفوذها على مصادر المال ومشاريع التعاون وضع العقبات والعراقيل في طريقه وإظهاره بمظهر الفاشل في التسيير والعاجز عن الاستمرار في مواصلة درب رفيقه الشهيد محمد عبد العزيز، فتم افتعال ازمة ثقة بينه ورفيقه بالنفخ في تصريحاته حول الهنتاتة والتهنتيت وقدمت للجماهير على انه يقصد الاساءة لسلفه، في حين كانت إرادة وضع حد لتغول هذه اللوبيات وتفكيكها تصطدم بتراكمات سنوات طويلة من زواج المال بالسياسة ما يصعب مواجهتها بالاساليب التقليدة والوسائل البدائية وهو ما عقد الواقع الذي اصبحت هذه القيادات التي فقدت جزء من مصالحها تتفنن في خلق الازمات ووضع الاشكالات والتمرد الصامت وحصد الفضائح والاختلاسات المالية و وضع الحبل على الغارب دون حسيب او رقيب.
فجاء المؤتمر الخامس عشر للجبهة الشعبية والذي تفتقت عيون الصحراويين، يحذوهم الامل في القطيعة مع ممارسات عفى عليها الزمن لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وتعود حليمة الى عادتها القديمة، بنفس اللاعبين السياسيين الذين رهنوا المشروع الوطني لنزواتهم الذاتية واشباع رغباتهم وطموحهم الاعمى للسلطة حتى لو اقتضى الامر التحالف مع خصوم الامس لاجهاض جهود اي رئيس يختاره الشعب الصحراوي.
بقلم : حمة المهدي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *