إسبانيا والمغرب: أبعد من سبتة ومليلية.. أقرب من جبل "تروبيك"...!
شهد الأسبوع المنصرم، اللقاء الذي جرى يوم الخميس في الرباط، بين العاهل المغربي الملك محمد السادس ورئيس الوزراء الاسباني بيدرو سانشيز.
يحصل هذا اللقاء، الموصوف من قبل المراقبين بـ"الحدث التاريخي"، بعد تغيير اسبانيا لموقفها من نزاع الصحراء الغربية، إثر الرسالة التي أرسلها رئيس الحكومة الاسبانية إلى العاهل المغربي محمد السادس في مارس المنصرم، وأكد فيها بيدرو سانشيز دعمه لخطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب، ما اعتبرته أكثر من جهة، تغييرا غير مسبوق في موقف مدريد وهو ما جرى التعامل معه أيضا كـ "تحول جذري" في السياسة الاسبانية، بشأن هذه القضية التي عمرت قرابة نصف قرن من السنين.
هاته "النهاية السعيدة" في علاقة النظام المغربي بحكومة مدريد، فتحت حلبة صراع مع جبهة البوليساريو والقانون الدولي وأدى بالجزائر إلى التنديد بالموقف الاسباني والاحتجاج على عدم إبلاغها بالقرار، والمبادرة باستدعاء سفيرها في مدريد من أجل التشاور. وجعل جبهة البوليساريو تندد بقوة بالموقف الاسباني الجديد من القضية الصحراوية، متهمة اسبانيا بالخضوع و"الاستسلام في مواجهة الابتزاز وسياسة الخوف التي يستخدمها المغرب". بل إن بيان جبهة البوليساريو اتهم السلطة التنفيذية الإسبانية ونعتها بـ"الخيانة"!...
ونبهت جبهة البوليساريو الدول الأوروبية الى خطورة إتخاذ قرارات أحادية الجانب تنتهك الشرعية الدولية في الصحراء الغربية .
وفي بيان توج أشغال الدورة العادية السادسة للأمانة الوطنية لجبهة البوليساريو التي عقدت يومي 26 و 27 مارس الجاري برئاسة الجمهورية ، الأمين العام للجبهة السيد إبراهيم غالي ، ذكرت الإتحاد الاوروبي بالوضعية القانونية للصحراء الغربية وبقرارات محكمة العدل الأوروبية، والتي كان آخرها الغاء اتفاقَـيْ الشراكة والصيد البحري مع المملكة المغربية، بسبب مخالفتهـما القانونَــيْـن الأوروبي والدولي.
ونبهت الأمانة الوطنية في هذا السياق الإتحاد الأوربي، كمجموعة أو كدول فرادى، إلى خطورة اتخاذ قرارات أحادية الجانب، تنتهك الشرعية الدولية، ولاتؤدي إلا إلى تأجيل فرص السلام العادل والنهائي، وخلق المزيد من التوتر والتصعيد والإحتقان، في منطقة حيوية وحساسة في الجوار الأوروبي.
فالصحراء الغربية والمملكة المغربية - يضيف البيان - بلدان منفصلان ومتمايزان، وإن مشاركة الجمهورية الصحراوية في قمة الشراكة الأوروبيبة الإفريقية الأخيرة إنما يؤكد إمكانية ضرورة التعاطي مع حقيقة وطنية وإفريقية ودولية لا رجعة فيها، خدمة للسلام والتعاون بين القارتين وفي العالم.
لم يكتمل مرور عشرين يوما على هذه الرسالة التي بعث بها سانشيز، حتى وصل إلى الرباط المسؤول الأول في الحكومة الاسبانية، برفقة وزير خارجيته خوسيه مانويل ألباريس، وعلى مائدة إفطار رمضاني بلقصر الملكي، أعطيت الإشارة رسميا لوضع قطار التطبيع الكامل للعلاقات بين البلدين على سكته المنشودة.
وبالعودة إلى قراءة فحوى رسالة سانشيز إلى العاهل المغربي، كما أدرجت عباراتها في نص بيان الديوان الملكي المغربي (18 مارس 2022)، فسنجدها تركز بالأساس على التعاون المشترك في موضوع "تدبير تدفقات المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي"، وتنتهي بالإشارة إلى أنه "سيتم اتخاذ هذه الخطوات من أجل ضمان الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين".
وإذا كان موضوع "الوحدة الترابية" بالنسبة للمغاربة، يقصد به أساسا الاراضي المحتلة في الصحراء الغربية. فإن تعبير "الوحدة الترابية" بالنسبة للاسبان يظل ضبابيا بعض الشيء وغائما، إذا تجاوزنا مسألة إيقاف تدفق الهجرة غير القانونية إلى أراضيها. لكن التعبير ينطوي بين أحرفه على ما هو أكبر من ذلك، حيث علينا استحضار التشبث الدائم لمدريد باحتلالها وبسط سيطرتها ونفوذها الكامل على مدينتي سبتة ومليلية، وعلى الثغور المغربية بالبحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
لا يجب أيضا تغييب واقعة سفر رئيس الحكومة الاسباني إلى المغرب من دون حصوله على دعم من البرلمان الاسباني، والموافقة على أطروحته المؤيدة للمغرب بخصوص نزاع الصحراء الغربية. حيث أثار موقف سانشيز انتقادات وشكوكا من المعارضة، وأيضا من حلفائه في الحكومة على السواء. منها حسب معارضيه "مخالفته لأسس القانون الدولي، الذي يطرح حل النزاع في إطار استفتاء تقرير المصير. وأن حل النزاع في الصحراء الغربية يجب أن "يمر عبر الحوار واحترام الإرادة الديمقراطية للصحراويين".
علما أن باقي مكونات البرلمان الاسباني تتمسك بموقف داعم لقرارات الأمم المتحدة لصالح حل تفاوضي بين طرفي النزاع (جبهة البوليساريو والمغرب)، لتحديد الوضع المستقبلي للمستعمرة الاسبانية السابقة. بل إن داخل الحكومة الاسبانية من يؤيد "مبدأ تقرير المصير للشعب الصحراوي"، و"وجوب احترام الشعب الصحراوي وإرادته الديمقراطية"، كما ينادي بذلك اليسار الراديكالي "بوديموس" المشارك في الحكومة الحالية، والذي يتضح أنه مستمر في زيادة الضغط على الزعيم الاشتراكي سانشيز، لدفعه لمراجعة الموقف المتصل بهذه القضية.
كما وجدتها المعارضة اليمينية فرصة للنيل من الإئتلاف الحكومي، نافية عنه قيمة الشفافية، ومحتجة على عدم مناقشة البيان المثير للجدل داخل البرلمان. بل إن المتحدث باسم حزب "فوكس" اليميني المتطرف والشعبوي، إيفان إسبينوزا دي لوس مونتيروس، وصف القرار بـ"غير المتوقع والمتهور وغير المناسب وغير الضروري"، وقال إنه لا يلزمه.
واتضح جليا أن الموقف غير المسبوق الذي اتخذه بيدرو سانشيز حول قضية الصحراء الغربية "دون استشارة البرلمان أو إبلاغ الرأي العام" كما يقول خصومه ومهاجميه، أحدث ولا شك تصدعا وقطيعة مع الخط التاريخي السياسي والدبلوماسي لاسبانيا.
***
طيلة عقود ظلت العلاقات بين المغرب واسبانيا تتأرجح بين الركون والتوتر، لجملة من الخلافات والأسباب العميقة، على رأسها الموقف من قضية الصحراء الغربية. لكن السنة الماضية شهدت توترا عاليا وخلافا دبلوماسيا كبيرا بين الجارتين، بعد استضافة مدريد للرئيس الصحراوي بغاية الاستشفاء بإحدى مصحاتها من "كوفيد 19"، ما أثار غضبا شديدا واحتجاجا واسعا في الرباط.
وإذا كان التغير في الموقف الاسباني من قضية الصحراء الغربية، يعتبر لأول وهلة من نتائج وأصداء الحرب الدائرة رحاها اليوم في شرق أوروبا، والتي بدأت تأثيراثها السياسية والاقتصادية تتجلى في أكثر من منطقة بأنحاء العالم. فإنه لا يمكن تغييب مسألة المقايضة التي وقعت في نهاية 2020، بين الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والمغرب، بانضمام هذا الأخير للإمارات والبحرين والسودان بالتوقيع على "اتفاقيات أبرهام"، وقبول المغرب التطبيع مع إسرائيل واستئناف علاقاته الدبلوماسية معها، مقابل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية المستعمرة الإسبانية السابقة.
بهذا الصدد يتحدث اليوم بعض المراقبين عن صفقة "مقايضة جديدة" تم إبرامها خلف أبواب مغلقة، بين مدريد والرباط، وقد جرى الكشف في هذه المقايضة عما دفعته اسبانيا، بالاعتراف بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية في إطار دولة مركزية قوية، هي المغرب، لكن لم يحصل الكشف بشكل واضح ومفصل عن المقابل الذي قدمه المغرب. وهو عدم المطالبة باسترجاع مدينتي سبتة ومليلية والثغور المحتلة. التي تطالب جهات سياسية في اسبانيا بأن يشملها انضمام مدريد لحلف "الناتو".
من هنا يفهم تخوفات البرلمانية اليمينية إيزابيل دياز أيوسو، التي اتهمت صراحة رئيس السلطة التنفيذية بتهديد "سيادة سبتة ومليلية وجزر الكناري"، التي حسب قولها "تسكن وجدان الشعب الإسباني"، وذلك بسبب التغيير المفاجئ للحكومة في موقفها بشأن الصحراء الغربية. وطالبت دياز أيوسو، التي تعد من أكثر الأصوات انتقادًا لبيدرو سانشيز، "باستقالة جماعية" لأعضاء الحكومة بأكملها. مضيفة أن "المغرب ليس له سبب تاريخي للمطالبة باسترجاع المدينتين. وأن السؤال هو "لماذا يضم سانشيز أيضًا جزر الكناري؟"، متسائلة "ما الذي يجري ويتفاوض عليه وراء ظهر البرلمان وإسبانيا؟". وهل "الاتفاق" مع المغرب سيجبر اسبانيا على التخلي عن سبتة ومليلية وجزر الكناري.
***
كان البرلمان المغربي في يناير 2020، صادق بالإجماع على ترسيم الحدود البحرية من خلال قانون يوسع سلطة المملكة القانونية لتشمل المجال البحري للصحراء الغربية المحتلة، وعلى قانون آخر بإحداث منطقة اقتصادية خالصة على مسافة 200 ميل بحري عرض الشواطئ المغربية.
لكن وزير الخارجية المغربي، خلال عرضه لمشروع القانونين أمام البرلمان، لم ينس التأكيد على أن تبني هذين القانونين هو "مسألة داخلية سيادية"، وشدد في الوقت نفسه على "انفتاح المغرب واستعداده للحوار والتفاوض مع جيرانه وخاصة إسبانيا لمعالجة أي تداخل في المجالات البحرية للبلدين". وأن المغرب مستعد للحوار البناء "على أساس المنفعة المشتركة".
غير إن مدريد عبرت حينها عن رفضها لإقدام المغرب على ترسيم حدوده البحرية خارج إطار الاتفاق المشترك معها.
وإذا علمنا أن المنطقة التي يعتبرها المغرب ضمن حدوده البحرية تحتوي على جبل بركاني، تم اكتشافه على بعد كيلومترات من سواحل الصحراء الغربية المحتلة التي شملها الترسيم، ويكتنز حجما كبيرا من المعادن النفيسة والنادرة من الاحتياطات المعدنية الضخمة والغازات والثروات الطبيعية، من أهمها معادن التيلوريوم والكوبالت والنيكل والرصاص والفاناديوم والليثيوم، التي تستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية واللوائح الشمسية والهواتف الذكية. لذلك تطمع إسبانيا في نيل نصيبها منها. ويطلق على الجبل البركاني اسم جبل "تروبيك"، وهو على عمق ألف متر تقريبا تحت سطح البحر.
وذكرت تقارير إعلاميية أن احتياطيات جبل "تروبيك" من التيلوريوم بنحو 10 في المئة من الاحتياطي العالمي، أما مخزون "تروبيك" من الكوبالت فيقال إنه يكفي لتصنيع أكثر من 270 مليون سيارة كهربائية، وهو ما يمثل 54 ضعف ما تمتلكه جميع دول العالم من هذا النوع من السيارات الصديقة للبيئة.
***
لعل هذه بعض خلفيات الاتفاقية التي تمثل بداية "مرحلة جديدة" لكلا البلدين. ملخصها الاعتراف بالحكم الذاتي للصحراء الغربية ضمن سيادة المغرب، مقابل السكوت والتخلي عن المطالبة بسبتة ومليلية وباقي الثغور.
لقد كان الخوف دائما في اسبانيا هو أنه بمجرد أن يحقق االمغرب غايته من دعم اسبانيا لمقترحه في الصحراء الغربية بشكل رسمي، فإنه سيعود لابتزازها من جديد ويكثف مطالبته بالمدينتين سبتة ومليلية وبجزر الكناري. فيما تشدد مدريد على أن المدينتين والجزر تحت سيادتها، وترفض أي حوار حول وضعها.
إنها بعض أسباب تخلي اسبانيا عن حيادها التقليدي في قضية الصحراء الغربية. وقد شرع ذلك الموقف في الخلخلة منذ 13 نوفمبر 2020 إثر الخرق المغربي لاتفاق وقف اطلاق النار في منطقة "الكركرات"، وإعلان جبهة البوليساريو استئناف الكفاح المسلح.
المصدر: الحرة بتصرف