الراحلة.... عشق وإزدراء..!!
لربما لا نحتاج إلى التذكير بما قدمه الصانع التقليدي تاريخيا لمجتمعه وشعبه، فتاريخ الصناعة الوطنية يبداء من بين مطرقة وزبرة الصُّناع، تاريخ حافل بالانتاج والابتكار وتطويع الطبيعة. لكن لربما من الجميل الحديث عن تراث عائلات الصناع التقليدين ليس تفاخراً انما دراسة للماضي ومقرانة للحاضر ونظرة للمستقبل.
اليوم اود الحديث عن "الراحلة" تلك الادات التي جمعت بين الهندسة والابتكار والذكاء الفطري للصانع التقليدي وابداعه منقطع النظير...
تصنع الراحلة الصحراوية من أنواع مختلفة من "الخشب" حسب المنطقة والوفرة، يقول المقاتل والصانع التقليدي الحكيم، محمد ولد ابيشيري ولد يارة (دائرة بوكراع، ولاية العيون) انه تربى وسط عائلة معروفة بالشعر والأدب وتتقن صناعة الحلي والتحف الفنية والاواني المنزلية، وخبرت أيضاً صناعة الفضة والنحاس، ولكن هناك أُسر واسعة منهم تتقن صناعة الخشب، ويقصد هنا كل المنتجات الخشبية او اغلبها كالرحلة، امشغبن، ارواگن، الحرجة، تحمارت..الخ
قال لي في آخر اتصال بيننا، ان الراحلة تعتبر مفخرة الصناعة التقليدية إذا ما نظرنا الى هندستها وكيفية تركيبها و تقنيات الامان التي توفرها للحيوان كما الانسان، هذا فضلا عن كونها منتج محلي من الطبيعة وإلى الطبيعة فهي تنتج بإستخدام مواد عضوية الخشب والجلد والقليل من المعادن وكلها مواد طبيعية قبلة للتحلل.. او اعادة التدوير..
ويرى الصانع التقليدي المخضرم محمد ببة، (دائرة مهيريز- ولاية السمارة) وهو صناع تقليدي ومن مهندسي جيش التحرير الشعبي الصحراوي الاوائل ان الراحلة اتت للتتوج جهود التفكير لدى الصناع التقليدين القدماء فأخذتهم الى القمة على مرتين، مرة فوق قمة الابل ذلك الحيوان العظيم الخلقة ومنها الى قمة التفكير المجتمعي حيث الإنتاج والابتكار وتطويع الطبيعة وتسخيرها لخدمة مجتمع يعيش فوق ظهور النوق (يقصد كثير الترحال)
وفي مقابلة اخرى مع المنتجة ومربية الاجيال المرحومة دادة منت امزيدف (دائرة 27 فبراير، ولاية بوجدور) قالت ان الراحلة هي رمز لوحدة المجتمع الصحراوي ضد قساوة الطبيعة... وحدة افقية وعمودية، فهي انتاج مشترك بين الرجال والنساء وتهدى للأبطال والحكماء والفقهاء وحتى المحاربين والعرسان على مختلف اصولهم وطبقاتهم... ويشتريها الرجال كمفاخرة ورفاهية..
فداخل خيمة "لمعلمين" يعكف الصانع -الرجل- على جلب الخشب وتقسيمه ثم تهيئة وبعد ذلك تقطيعه وصناعة أجزاء الراحلة منه، وأخيرا تركيبها... لتأتي المرأة الحرفية وتبداء بتغليفها بالجلد وتزينها بالصباغة التقليدية "لانكر" والخياطة البارزة على الحواف، و هنا أيضا تتحقق "اتويزة" بين أفراد الأسرة الكادحة في سبيل كسب القوت..
تصنع الراحلة من أنواع مختلفة من الخشب، على سبيل الحصر، خشب آغنين بالاخص، ولكن ايضا يمكن صناعتها من تيشط ولثل واجداري هذا طبعاً عند الصناع التقليدين الصحراويين، لربما في موريتانيا الموضوع اشمل وقائمة الخشب اطول نظرا لتوفر أنواع مختلفة منه.
تتكون هذه الادات الفريدة من القطع التالية :
1- القربوص: هو الجزء الامامي من الراحلة.
2- تانتفرت: هي الجزء الخلفي الذي يسند عليه الراكب ظهره.
3- الصفف: و هما القطعتان الجانبيتان، حيث يضع الراكب ذراعيه عليهما.
4- الغربان : هما قطعتين سفليتان اللذان يحميان الجمل وهوما وسدتان من الخشب يتم حشو المنطقة التي بينهما بجلد الابل (الجنبة) وفوق الحشوة يتم وضع قطعة فضفاضة مزخرفة من جلد الماعز المدبوغ مزينة بزخارف ملونة..
5 - امراشيق : عبارة عن أعمدة خشبية توصل الصفف بالغربان و تثبتهما.
6- اللبدة: هي عبارة عن وسادة ثالثة تصنع تقليديا من نبات "ازاران " وتقلف بالجلد توضع على ظهر الابل ليتم وضع الراحلة فوقها.
7- لَحلق : و هما حلقتان من المعدن (لا يوجد نوع من المعدن مخصص لصناعتهما) من خلالهما يتم تمرير لقشاط و الغرظة لتثبيت الراحلة على سنام الجمل.
للراحلة توابع... تذكر منها:
الغرظة : هي عبارة عن حزام مصنوع من جلد الغنم مظفور يتم تمريره عبر لحلق لتثبيت الراحلة أكثر كحزام الامان.
لقشاط : هو سير من جلد البقر أو الإبل يربط به الغرظة مع الراحلة .
آسفل : هو حبل غليظ يظفر من جلد الغنم ايضا، ويمرر عبر الجهة الخلفية للراحلة (تانتفرت) الى أسفل ذيل الابل ثم عبر بطنها..
التاسوفرا: هي عبارة عن حقيبة كبيرة الحجم يستعملها البدوي في حمل جميع امتعته من لباس و أدوات و غذاء وتثبت خلف الراحلة .
تاريخيا لا توجد مصادر دقيقة عن اول من صنع الراحلة، وللأسف هذا جزء من المظلمة الكبرى التي عاشها الصناع التقليدين وتسبب فيها المجتمع والصناع نفسهم من خلال عدم تدوينهم تاريخ الصناعة التقليدية كفضاء تفاعل بين الانسان والطبيعة، كما ان المؤرخين بإختلاف جنسياتهم اهتمو بالاصول والنسب الحروب ومناطق السيطرة ولم يهتموا بواقع الإنتاج والابتكار في مجتمع البيظان، بل تم الدوس على تاريخ الصناع والتلاعب به وتجاهله تحضيرا لواقع عنصري طبقي إقطاعي نعيش الان جزء منه.
هكذا تبرز الراحلة قصة ابتكار وتفاعل بين الحاجة والعقل، وكيف أحب الصانع التقليدي الملتزم عمله وابدع فيه، حب تجاوز مرحلة الحب الى العشق وسط مجتمع ظل يزدريه ولا يزال الى يومنا هذا.
أحمد علين محمد سالم.