النخبة والثورة : الجزء الثاني
في الجزء الأول من هذا المقال ، والذي اعتبرناه توطئة فكرية تهدف إلى مناقشة تعريف مفهوم النخبة، وليس اخده كمسلمة ،لا من الفكر اليومي، ولا من التيرمينولوجي الأكاديمي ولكن مناقشته من خلال المعنى الذي يكتسبه في مشروعنا الوطني وفي المشروع الثوري العالمي ،لاننا نعتقد ان كل المفاهيم الإجتماعية العلمية تكتسب معناها من خصائص التفاعل بين الذات العاقلة المنتجة للمفهوم وبين الشروط التاريخية التي تنتجها . ولذلك طرحنا مجموعة إشكاليات نعتقد انها ستكون المفتاح لفهم الموضوع سواء بالإجابة المباشرة عنها, أو تحويلها إلى إشكاليات أخرى تساعد على تفسير الواقع الموضوعي الاجتماعي بتحليل علمي إذا أمكن ذلك.
على أي أسس ننقل أفكار النخبة الوطنية من تنظير حول الواقع ،إلى مقررات؟ وما هو مضمونها الحقيقي وهل لها مضمون في واقعنا الإجتماعي؟
ترد هذه الإشكالية من أجل الإجابة عنها إلى إشكالية اخرى ، وهي تحديد دور النخبة في الثورة،
وهي ببساطة شديدة الفئة التي تحول كل موارد المجتمع الهائلة مهما كان المجتمع صغيرا إلى أسلحة لإنجاح الثورة، وموارد المجتمع ليست شيئا آخر غير الإنتاج المادي والروحي للمجتمع، وقد كان الشهيد الولي والشهيد محمد عبد العزيز وغيرهم من الرفاق يطوفون بين خيام الصحراويين باحثين عن قطع السلاح أو السيارات أو مراكيب الإبل لدعم الثورة ولكن كانوا كذلك يقيمون الحلقات الفكرية والنقاشات لإستيضاح حقيقة الواقع الموضوعي وفهم حقيقته العلمية، بشكل يتطابق مع الشروط التاريخية أي إنتاج الأفكار، حينما أشرنا إلى أفكار النخبة فقد خصصنا البحث للإنتاج الروحي أي الفكري، وهنا يتطابق لدينا الشكل والجوهر لأننا بصدد بحث النخبة ودورها في الثورة وهي المسؤولة عن إنتاج الأفكار،ونقلهإ إلى إدراك الناس أي تنوير المجتمع ،وهذا هو ما يشكل الأساس الحقيقي لقوة الإقناع، فحينما نتكلم عن كفاءة الشهيد الولي رحمه الله في إقناع الناس فإننا نفسر هذه الكفاء بقوة الحجة ، لأن التحليل العلمي والمنطق متعجرف وكفيل وحده بإقناع الناس، لأن القواعد الشعبية وعامة المجتمع لا تصبح متلقي لهذا الفكر ولكن طرف في انتاجه ونقاشه وتبنيه وبالتالي الدفاع عنه بالرغم من أن النخبة هي العنصر الحقيقي نظرا لقدرتها على تفسير الواقع ولكن هذه القدرة تبقى بدون فائدة مالم يصاحبها العطاء والفعل الثوري مادي كان أو روحي، وتنقلب إلى آفة على الثورة حينما يكون دافعها مصلحي غير ثوري لأنها تمييع تفسير الواقع ليطابق مصالحها وتصبح عالة على المجتمع وكابحة للثورة والتقدم.
بهذه الممارسة تخلق النخبة حينما تنحرف نقيض الثورة وتقسم أفراد المجتمع إلى فئات: منحازة لها على أساس مصلحى شوفيني قبلي …..، أو على أساس تزييف وعي العامة الغير مدركة لحقيقة الواقع والتي ترى في هذه النخبة منقد ومحرر رغم انحرافها، وفئة أخرى ناقمة عليها ومعارضة لتصرفاتها سواء بوعيها الحقيقي بالواقع وهمها الثوري وانتباهها للانحراف، أو فقط بإحساسها بأن حقوقها غير مسلم لها بها ،وهنا نصطدم بمفهوم آ خر تكلم عنه الشهيد الولي هو:
التسليم بالحق, وهذا موضوع على مستوى كبير من الأهمية سنخصص له باب خاص في هذه السلسلة لما له من تأثير في توجيه وتوحيد جهد القاعدة الشعبية.
وحينما نتكلم عن تسخير موارد الشعب لنجاح الثورة وجعلها في كل المراحل وقودا لها، فإننا نتكلم عن الحفاظ على هذه الموارد وعدم هدرها ، من خلال مفهوم المردودية الذي يعادل حاصل قسمة الإنتصارات المادية والمعنوية مقسم على الموارد التي اعطيناها ( الموارد تكون مادية فكرية وحتى بشرية ـ التضحيات ـ ) وقد يكون هذا المثل غامضا وغير محدد ما لم ننزله على واقع و سياق اجتماعي محدد من حيث المكان والزمان لكي يكون علميا دقيقا
وهنا سأستعين بالكلمة التي القيتها بمناسبة عشرين ماي في احدى احتفالات الجالية الصحراوية بوسط فرنسا ، وهي خلاصة كنت أعددتها عن الجالية الصحراوية، هذه الجالية التي تختلف عن كل جاليات العالم ، لأن أغلب الجاليات الموجودة في أوروبا تتكون أساسا من الطبقات التي لم تجد فرص للعمل والحياة في مجتمعاتها، لأنها غير مكونة علميا ، أو لأنهم أناس عاديين من عامة المجتمع، ولكن حينما تركز على الجالية الصحراوية تجد فيها الأساتذة والدكاترة والأطباء ......وهلم جرا , أي جالية صحراوية نوعية مقارنة مع جاليات العالم ولكن الجاليات الأخرى ك يد عاملة في أوروبا تشكل مصدر دخل للعملة الصعبة لبلدانها من خلال التحويلات المالية، و تشكل طبقة مستثمرة في بلدانها في مجال البناء والتشييد وخلق فرص للعمل وترويج إقتصاد بلدانها، بينما جاليتنا النوعية لا تستطيع اي شئ من هذا لأنه ليس هناك وطن محرر، إذن تصبح هناك أولوية على مستوى المردودية وهي تحرير الوطن، وفشل هذه الجالية النوعية في مسألة المردودية ليست مسؤولة عنه ، سواء كانت واعية بوضعها ام غير واعية به، لإنه بدون وجود تنظيم يسخر مواردها الهائلة وقودا للثورة ستعتبر موارد مهدورة، أي أن النخبة لم تؤدي دورها النضالي الثوري، وما قلناه عن الجالية من هدر الموارد الشعبية يمكن ان نقوله عن جماهير المناطق وحتى عن سكان المخيمات بنسب تتفق من حيث الشكل وتختلف من حيث الجوهر، وكان هذا هو المقصود بوحدة وتعددية الخطاب السياسي الصحراوي التي عالجناها في الصفحات الأخيرة من كتاب النظرية الثورية في الفكر الصحراوي، و وجوب انتاج خطاب سياسي صحراوي علمي كشكل نوعي للوعي الثوري يعبر عن الإنسان الصحراوي في وجوده الحقيقي في سياقه الإجتماعي وبذلك سيكون خطابا متعددا ومتنوعا حسب المكان والزمان أي في الجاليات والشتات والمناطق المحتلة وفي اللجوء، وخطابا موحدا فيما يخص وحدة التصور السياسي للشعب الصحراوي أينما كان, فيما يتعلق يتعلق بالهدف الاستراتيجي في الإستقلال, وليست الأهمية هنا للخطاب السياسي كممارسة سياسية, بل كوعي ذاتي وك تعبير عن المسالك التنظيمية التي تسخر استعمال موارد الشعب في خدمة الثورة الحقيقة التي عزوناها إلى دور النخبة.
ويدل عدم وجود هذا الخطاب وهذه المسالك التنظيمية إلى خلل في وظيفة النخبة، أو عدم اكتمالها لشروط وجودها : ك نخبة ثورية تحديدا، وفي الغالب يكون السبب عدم وعيها وعيا متطابق مع الشروط التاريخية, ونكون هنا قد استعملنا كلمة الوعي لوصف الموقف السياسي الإستراتيجي وممارسة النخبة للصيغة النضالية أو الكفاحية، يعني تحديدا دور النخبة في التغيير يتطلب تحديدا نقل التوجه من الحركة المطلبية إلي حركة التغيير الجذري. وبدون هذا الوصف لا تسمى نخبة لأنها لا تستكمل شروط تعريفها
، ودائما نستعمل كلمة نخبة تماشيا مع التعاريف الأكاديمية لأن الكلمة دخيلة على أدبياتنا
يمكننا فهم منهاج الشهيد الولي رحمة الله عليه فيما يتعلق بالمسائل التنظيمية ل تسخير موارد الشعب في الثورة فيما يتعلق بالجاليات، عند قدومه سنة 1974 إلى جامعة السوربون قصد إلقاء المحاضرة, واللقاء الصحفي المنسق مع صديقه احمد مسكة رحمة الله عليه، وبعدها الى مدينة ليميرو الفرنسية بضواحي مدينة باريس, حيث كانت الجالية الصحراوية القليلة نسبيا مقارنة مع الجالية الصحراوية الموجودة اليوم بفرنسا وعموم أوروبا.
أسس الشهيد الفرع السياسي للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب ، هذا الفرع أشرف على أكبر الانطلاقات من الجاليات وعلى أكبر عمليات الدعم المادي، وهذا هو ما يعني تصميم المسالك التنظيمية لنقل موارد الشعب إلى خدمة الثورة الشعبية. ومخافة أن نحيد عن الطريق فقد ترك لنا الشهيد الشكل التنظيمي بجوهره الثوري ،فكرا وممارسة:
ويكون الشهيد قد حقق هذه النقلة النوعية من المطلبية إلى الثورية لا على المستوى الفكري فقط ولكن بتحديد الشكل التنظيمي الذي يضمن بشكل علمي تسخير موارد المجتمع لخدمة الثورة التي هي بالأساس خدمة المجتمع وتطويره ،وهي العلاقة الجدلية بين موارد الشعب المادية والروحية وبين الثورة كعملية تغيير أو تطور شامل للإنتاج المادي والروحي للمجتمع ،ويبدو جليا ان كلا طرفي العلاقة يخلق الأخر شرط وجود تنظيم سياسي محوري يضمن هذا التخادم ، وهو الدور الحقيقي للنخبة.
وعند إنحراف هذا الدور لأسباب ذاتية أو موضوعية، تصبح الثورة أي المكاسب والانتصارات مجرد زاد نفعي تستغله النخبة والأطر وكل من استطاع من عامة المجتمع ، وتغيب علاقة التخادم هذه ،وتغيب القدرة على تطوير موارد المجتمع وتغيير وضعه إلى الأفضل ويحصل واقع الركود والانهزامية ومهادنة أعداء الثورة في الداخل والخارج ويحل خطاب التبرير الذي يأخذ من الثقافة القديمة مفاهيم تفسيره للواقع ومن خلال هذه المفاهيم الثقافية البالية يقوم بإحياء النزعات القبلية والشوفينية وهذه هي الرجعية بالمعنى السياسي للكلمة
إذن نفهم هنا أن الركود الثوري، وعدم القدرة على تطوير موارد المجتمع وإذكاء التشرذم ناتج عن خلل في دور النخبة.
لكن دعونا نرى كيف استعمل الشهيد الولي رحمة الله عليه، القوالب الثقافية القديمة لإيصال الفكر العلمي الواقعي، مستغلا هذه القوالب القديمة لتبسيط التحليل العلمي.
تذكروا المثال الذي ورد على لسانه ( البنت التي تحلب الماعز والأم التي تقوم بمخيض الحليب واستخراج الزبدة.....) فالمثل صورة واقعية من البداوة الصحراوية مفهومة للجميع ولكن التحليل يقصد توضيح مراحل إنتاج موارد الشعب وتحويلها من خلال دور النخبة إلى مكاسب أي تغيير وتطوير....
بل كيف استعمل أدباء الثورة التغي بالمفاهيم الثورية ورفض الرجعية البالية ، إن الثقافة القديمة والمقولات العامة والحكم والأمثال، يمكن إستعمالها كقوالب تسهل التواصل والفهم وتحافظ على الهوية الوطنية مع عصرنة جوهر الفكر وعلميته وهي مهمة لهذا السبب . ولكن حينما يتعلق الأمر بالرجوع إلى الثقافة القديمة في جوهرها المعبر مثلا عن إيديولوجية النظام القبلي الذي كان سائدا قبل الثورة فهو مدمر وخطير على مسارات المشروع الوطني.
لكي لا يكون هذا الموضوع طويلا جدا تحاشيت أن أتطرق لموضوع العلاقة الإيديولوجية بين الحركة الطلائعية التي طالبت من اسبانيا إحترام إرادة وسيادة واستقلالية الشعب الصحراوي وبين ايديولوجية الجبهة التي أوجدت التنظيم السياسي بصيغته الكفاحية التي صممت على قهر إسبانيا وجعلها تحترم إرادة، وسيادة، واستقلالية الشعب الصحراوي ، والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب تعتبر تطوير واستمرار ونقد للحركة الطلائعية، والمقارنة هنا ليست فيما يخص الأهداف ولا حتى النوايا لأنهم متطابقين إنما المقارنة هنا في المسالك التنظيمية وفي التحديد الإيديولوجي للمفهوم الثوري ،فالمجتمع الصحراوي حاول التحرر بمفهوم الجهاد 1956، وحاول التحرر بمفهوم المطلب بعد إعلان إنهاء الاستعمار ولكنه تبنى العنف الثوري كأحدث مفاهيم التحرر وعلى النخبة أن تفهم أن الوعي الغير متطابق مع الشروط التاريخية لا يعبر بالضرورة عن الواقع، ولا يمكنه أن يقدم حلولا لإشكاليات هذا الواقع.
ونتيجة لهذا فالنخبة الموجودة اليوم لا يمكنها أن تفسر الواقع بمقولات الشهيد الولي رحمة الله عليه ،لأن وعيه متطابق مع شروطه التاريخية، رغم قصر المسافة لأن خمسين سنة من عمر الشعوب لا تساوي شيئا، بل الأخذ بمنهاج الشهيد الولي بالتحليل العلمي واحترام الحقيقة العلمية , ولدى النخبة اليوم توفر المعلومة وسهولة الوصول إليها وهو شئ لم يكن متوفر للشهيد، على النخبة اليوم أن تبنى على قاعدة ومنهاج ومبادئ الشهيد الولي ولا تضيع الوقت في تكرار تحاليله التي وصفت واقعه بكل دقة
بمناسبة 17 يونيو
أترحم على شهدائنا الأبرار وكل الوطن أو الشهادة
حسان ميليد علي ( البوليساريو )