-->

الحفرة(قصة قصيرة)

 


تذكار لفيضانات شهر أكتوبر 2015م في مخيمات اللاجئين الصحراويين.
**
في الليل بات الصويمد يفكر في الصهريح الذي يبيع له الماء أسبوعيا.. منذ ثلاثة أيام أختفى الصهريح الملعون، وقفل سائقه المجنون التلفون... ثلاثة أيام وهو يذهب ويقف على حفرة لبيريك العطشانة ثم، حين لا يجد ما يقتل به الوقت، يكبَّر الحفرة ويوسع زواياها .. وهو منهمك في تكبير الحفرة يرن تلفون المرأة التي تعاقد معها منذ أسبوع على صنع 5000 بريكة لبناء كيكوطة من طزار جديد.. المرأة متعطشة كي ترى الكيكوطة واقفة بسرعة، وحفرة الصويمد عطشى للماء.. لا تهم جودة الماء، ولا يهم أن يكون مالحا أو عذبا.. ويقول لها وهو يمسح عرقه: "خاص الماء.. الكوبة ماجاءات".. تقفل تلفونها بكلمة ممتعضة.. يواصل هو الحفر وتكبير الحفرة ويواصل عرقه المالح السيلان.. تكبر الحفرة وتكبر أخلامه ومشاريعه. يحصل على المال، يتزوج، يبني كيكوطة  لا عين رأت ولا أذن سمعت. يشعل طوبته على نأر الشمس ثم يجلس يعابث دخانها.. يضرب بها على بريكة فتسقط جمرة صغيرة تتلوى قليلا مشتعلة ثم تخبو..
نام تلك الليلة يحلم بالماء. حلم أن بحر الرمل الذي يحيط بالمخيم تحول إلى بحر من الماء، وأن حفرته امتلأت.. لم يكن يحلم، نزل المطر فعلا عنيفا تلك الليلة كأنما جاء لنجدة رمل على وشك الموت بسبب العطش.. استيقظ على همهمات في الظلمة: " يسقي بها لبلاد ويبعدها عن لوتاد" وأشعل ضوء تلفونه ورأى الرمل يشرب بسرعة وشراهة، ثم، في لحظات، رأى الماء يفيض ويسيل بين الكثبان. كانت ليلة طويلة في حياة المخيم.. أصوات جدران تتشقق، تتكسر، أصوات صفائح زنك تنزاح ثم بدأت المرحلة الأخيرة: تساقط بعض البيوت.. سقط شيخ في الظلمة في الحفرة، كاد يغرق، وصرخ: الله لا إعمرك يالصويمد. 
وفي ساعة الفجر الأولى رن تلفونه.. قالت له المرأة التي تعاقد معها ليصنع لها لبريك: الحمد لله أن صهريج الماء لم يأت. لو كان جاء وبنيت كيكوطتي كانت سقطت. سبحان الله. كل استاخيرة فيها خيرة." قَفل التلفون. حل الصباح على الكثير من الخسائر.. "سقط بيت أهل فلان.. تشقق بيت أهل فلان.. سقطت كيكوطة فلانة.. تشقق كيطون فلانة.. " جاره الشيخ ذهبوا به إلى المستشفى لأنه سقط في الحفرة. المخيم حزين، وحتى الشمس المبهرة دائما كانت حزينة ذلك الضحى.. تحدث الصويمد للناس عن بطولاته في الليل: بتّ ساهرا أحرس الحفرة. انقذت الكثير من الناس من الوقوع فيها.  لكن جيرانه يقولون أنه قضى الليل نائما حين كانت الدنيا فيضانا، وكان الناس ينقذون فلان وفلانة. فكّر الصويمد في الحفرة.. ذهب يتفقدها.. وجدها مملؤة عن آخرها بفعل المطر.. حتى الحفر المهجورة الموجودة بجانبها أمتلآت وسيستغلها هو. الماء الذي كان سيشتريه بثمن غال جاء في الليل وحده.. كمية معتبرة قد تصنع الخمسة الآف بريكة التي سيبني منها "مشروع كيكوطة المرأة".. ورغم مظهر الحزن الصامت في المخيم إلا أنه هو كان فرحا.. كان فقط ينتظر أن يدفأ الجو ليبدأ يعمل..
حين بدأ العمل وقف الصهريج، الذي كان سيبيع له الماء، بجانب حفرته.. قال له السائق أن هذا الماء الذي في الصهريج ليس ماء لبريك، إنما ماء الغدير، ماء الشاي، وأنه سقى البارحة صهريجه من ماء المطر وجاء يبيعه، وأنه بدل أن يبيعه بثمن الماء المالح سيبيعه بثمن الماء البارد والغدير الذي يصلح للشاي..                
بدأ الصويمد العمل خوفا من الشمس.. كان يحفر ويتصور ان كل سكان المخيم يحيطون به في نفس الحفرة.. كان يسمع أصواتهم، يرى وجوههم، يشم رائحة عرقهم ويلمسهم.. تصور الحفرة أصبحت كبيرة جدا وتتسع لكل سكان المخيم، وأنهم بدؤوا يعملون معه كلهم.. كان بينهم مسئول المخيم والتاجر والمقاتل وصاحب الإدارة وسائق سيارة الأجرة، وأن وجوههم تلوثت كلها بالطين والوحل لكنهم كانوا كلهم، مثله ينظرون إلى الشمس وعرقهم يسيل، وكانت احلامهم كلهم مشرقة..           
السيد حمدي يحظيه

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *