-->

اللغة : أركسترا

الصحراء الغربية (وكالة المغرب العربي للانباء المستقلة) اللغة في تصوري، هي
عبارة عن نص موسيقي تشترك فيه الحروف والكلمات، والجمل والعبارات طبقا لقواعد معينة معروفة، والنطق بها سليمة غناء ، يتفاعل معه جمهورها المحافظ ، ويتفهمه كيفما كان ، فاللغة أحبال صوتية، شجية بإتقانها ، مثلما هي أوتار طرية ، إذا ضبطت كان العزف مستحبا ، وإذا تركت رخوة كان مقززا وممقوتا ، إذن هي أركسترا بتعدد إيقاعاتها ومخارج حروفها ، وضبط أدائها ، وفيها يؤدي المغنون والعازفون حسب النص المشترك أمامهم ، فإذا كان الأداء طبقا للأصل ، جيدا ومميزا ، أحدث تواصلا راقيا تتباين فيه الثقافات بين بني البشر، وإذا خرج عن المألوف خاب ظن الأوفياء من رواد هذه الأركسترا، وانصرفوا .
إن الحرص على الإتقان والتشبث بالأصالة في اللغة، هو الذي يجيش الخواطر، ويطرب الوجدان، ويثير في النفس العزة والكبرياء، وهو الذي يترك أثرا إيجابيا دائما عند التعاطي مع مختلف مظاهر الحياة وإفرازاتها ، ويحول دون الخروج عن الذوق الخالص والمعهود لأي لغة كانت . وهذا هو التواصل البناء الذي يراعي العراقة والتميز كحق غير قابل للتصرف بالنسبة لكل محافظ أمين ، باعتبار أن اللغة تختلف من بيئة إلى أخرى ، ولكل اعتزازه بها، ومميزاته وعاداته وتقاليده وأسلوبه في الحديث وتطبعه في التعامل والمجاملة ، مثلما له حدوده أيضا في مدي إبداء الاحترام وتفهم الرأي الآخر ، وهذه أشياء يجب أن لا تخضع للنسيان ، أو للإغراء والمساومة ، حتى لا يكون هناك انسلاخ وتفسخ وضياع للشخصية ، في بوتقة التداخل الذي يفرضه اليوم عالمنا الافتراضي عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي ، والفضائيات ، ومختلف وسائل الإعلام المحمومة بداء العصر، المتمثل في التقليد الأعمى ، الذي أضر باللغة وأحدث خللا في إيقاعاتها ونغماتها ، وجلب لها كلمات ليست منها ، تم استبدالها فقط قصد التظاهر بحضارة مسروقة ، ومعرفة جوفاء بلا جذور، من قبل أناس بلهاء من أهلها ، لا تعرف العزة والتواضع سبيلا إلى أنفسهم ، وهؤلاء بمثل هكذا تصرف ليسوا سوى قطعة فلين تطفو على سطح بحر هائج ، بلا وزن معتبر، يثبتها أو يحفظ توازنها في الأعماق الخطرة . ونستثني من تلك الكلمات المستوردة للإنصاف ، تلك العلمية العالمية ، كون أي اختراع ، أو علوم معينة هي ملك لصاحبها ، وينبغي احترامها تقديرا لمجهود أي إنسان في مجالات الإبداع والابتكار .
والمهارة والدقة والحبكة والتميز في ما تقدمه أركسترا اللغة ، من نغمات وإيقاعات ، مرهون بإتباع سلمها الموسيقي وإشارات المايسترو المنظم لتناغمها أثناء الأداء ، وهذه مسألة أساسية ، تجعل هذه الأركسترا ناجحة وقريبة إلى الروح في كل ما تقدمه لجمهورها الوفي ، من ألحان أصيلة متقنة وفواصل موسيقية مميزة ، ولعل الأركسترا العربية في الواقع كانت وربما مازالت خير دليل في هذا الشأن ، ولعل المؤسف أيضا هو تأثر جمهورها العريض بإفرازات الحاضر التي مست الذوق الرفيع والقيمة الأصلية للغتها العربية ، وهذا شئ لا ينبغي حقا على من أنزل القرآن الكريم بلغتهم مصطفاة عن باقي اللغات ، خاصة بعدما أصبحت ثانوية من قبل بعض من أهلها ، وهدفا للسخرية من طرف الآخرين الحاقدين على ديننا العظيم ، ولا من يحرك ساكنا لاستعادة البريق الآخذ في الأفول .
إن أي أركسترا عريقة ومحترمة ، تحافظ على أدواتها وتتقن أداءها وتتشبث بأصالتها وعراقتها ، حتما لها من يهواها ويغار عليها ، لأنها ناجحة وقادرة على فرض نفسها رغم كل الظروف ، ومن شأنها أن تجعل المتلقي دوما يحن إليها وينتشي بعذوبة كلماتها ووقع رناتها طبقا لسلمها الأصيل ، خاصة إذا كانت هذه الأركسترا ـ أعني اللغة دائما ـ من اللغات الغنية ذات الفضاء الواسع بمفرداتها وأسلوبها ومختلف مجالات إبداعها التي لا حدود لها ، كلغتنا العربية العظيمة بعظمة الإسلام ، فمن ذا الذي يرضى بتحريف الكتاب المبين الذي لا ريب فيه ، وقد أنزل بلسان عربي فصيح ، هدا للناس وبينات من الهدى والفرقان ؟ الإجابة نتركها للذين يفضلون في المرتبة الأولى ، التكلم والكتابة والتظاهر والتفاخر بلغات أجنبية على لغتهم الأم ، حتى وهي في عقر دارها ، ولأولئك الذين لا يولونها أي اهتمام ، بعد استكمالهم لدراستهم بغيرها وبعيدا عن موطنها ، فما الضير بالنسبة لهؤلاء في استدراك لغتهم وتعلمها وهي القريبة إلى القلب والوجدان ، وهي القادرة على تأجيج مشاعر كل عربي ومسلم مؤمن ، لا طاعة لديه لأحد في معصية الخالق ، ولا في الانحراف عن قيمه وعاداته الأصيلة . ثم بعد كل هذا ، لماذا نبذل جهدا لإفهام الآخر بلغته دون أن نتركه يتفهمنا بلغتنا ؟ ألا يسعى هذا الآخر إلى فرض لغته علينا بهذه الطريقة ؟ صحيح أن من تعلم لغة قوم اتقى شرهم ، ولكن ليس إلى حدود التأثر بهم والانصهار فيهم . اللغة أركسترا حقا ، إذا وجدت من يتمعن فيها ويتغنى بألحانها ويرددها في كل زمان ومكان دون أدنى تأثر قد يشكك في عجزها وسلامة بنائها ، فالواثق من ألها هو من يغار عليها من كل مساس ، ويستنشقها كالنسيم العليل ، بل ويعتبرها جزء لا يتجزأ من كيانه ووجوده الفريد في يم متلاطم من الثقافات المختلفة ، فالحفاظ على اللغة ودراستها والتمكن منها ومعرفة كنهها ، ومدى تأثير كلماتها المنتقاة ، وجملها المفيدة ، وعباراتها البليغة ، يجب أن يكون هدف ، والقدرة على الإيحاء من خلالها ، والرسم بها بأسلوب جميل ، عذب وسلس ، هو ما يجب أن يرنو إليه كل متكلم أصيل ، أو كاتب ، أو قارئ ، أو حتى مستعمل للإشارة ، من أجل إيصال فكرة ، أو معلومة ، أو خبر ، أو قصة ، أو رواية ، أو فكاهة أو غيرها في قالب جميل وبلحن ملحن عظيم وبليغ ، إلى من ألفوا الذوق الرفيع ، لأنهم شربوا ذات مرة من منهل صاف سلسبيل ، وما زالوا بعد كل ظمأ أو جفاف يؤمونه لملأ أقداحهم ماءا زمزما مباركا ، يحصن انتماءهم وأصالتهم وثقافتهم المتميزة ، منذ أن خلق الله الناس شعوبا وقبائلا ليتعارفوا ، لا ليضمحل بعضم في البعض .
بقلم: محمد حسنة الطالب

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *