-->

علبة سردين


علب السردين في كل مكان ، تختلط بقاياها بأرجل الحشود القادمة من مناطق متفرقة، فهدف هؤلاء ترديد مجموعة من شعارات قد لا يفقهون مضمونها وأهدافها.
"العربي" يمشي في إحدى الشوارع بالعاصمة المغربية يبحث عن الرجل المحسوب على السلطة لكي يأخذ منه مجموعة أوراق نقدية وخبزة وعلبة سردين كباقي الحاضرين في هذا الحدث ، ولكنه لم يجده . يدخن ويدخن . حرارة فمه بفعل السجائر تؤثر على جسمه الذي يتصبب عرقا، جلبابه الأزرق لا علاقة له بالأعلام التي يرفعها الحضور من ناحية اللون ، قبعته حمراء تتوسطها نجمة خضراء لم تق حتى نصف رأسه من أشعة الشمس ، فطريقة وضعها ذكرتني بالقبعة التي يرتديها معتنقو الديانة اليهودية ." فالعربي" قادم من مدينة تبعد عن الرباط بمئات الكيلومترات ، والإدارة التي يشتغل بها ك "شاوش " أرغمته على الحضور رغم أنه لا يعلم شيئا عن الصحراء.. يسير بين ما يسميه هو "كحل الراس".. شعارات هنا وهناك غير منسجمة كخطوات "العربي" الذي أحس ب "الدوخة" وهو يمشي بين المتظاهرين . ورائحة العرق التي تنفثها أجسام هؤلاء جعلت عيناه تكاد تنغلق كما لو كان قد أخذ نفسا عميقا من الحشيش المغربي . بقي يمشي ويمشي حتى جلس على رصيف غير بعيد عن "الحدث المصطنع" , اقترب منه شاب: 
ــ مالك ألوليد 
ــ أحس بدوار "طفيــت أوليدي" 
قدم له سجارة وانسحب.. بقى "العربي" جالسا يتأمل في المارين أمامه ولا يعلم ما السبب الرئيسي لخروج هؤلاء . قالوا له أن الصحراء في خطر وإذا لم يحضر فسيطرد من عمله، فأرغم على السفر والحضور ولو بطريقة شكلية .. ورغم أن تعليم "العربي" لم يتجاوز الصف الإبتدائي إلا أنه مواطن لا يأبه للسياسة ومشاكلها، يعرف الحساب أكثر من الكتابة باللغة العربية، ويمتلك جلبابين وبدلة واحدة للعمل ، أما نصف راتبه فتلتهمه السجائر ، و ما تبقى فصرفه على أطفاله وعائلته الصغيرة وزوجته "فطوم"، ولكنه يبقى من الحانقين على الوضع ولا يريد أن يعلم أحد بأمره، لأنه كما يقول "المخزن خطار" , يعشق "العربي" الإستماع إلى المغني الأمازيغي "الرويشة"، ويضايقه كثيرا سماع أغنية "دنيا باطمة" في هذا الحدث المبني على أساس هش وبسياسة دفتر الشيكات .. فالسلطة هنا تقدم مجموعة "فنانين" على اخرين لا لشيء سوى أنهم يهتفون ب "مغربية الصحراء".
مدينة الرباط تمتلئ بالغرباء عنها، فأهل العاصمة المغربية انسحبوا في الصباح الباكر للمدن والمناطق المجاورة لقضاء أوقات ممتعة بعيدا عن رائحة العرق وعلب السردين . "عبد الباقي " يسير بسيارته التي يعادل ثمنها منزل وملبس ومصروف "العربي ", ويستمع للراديو ، فكل المحطات الإذاعية في هذا البلد حركتها "حكومة خلف الستار" لتقوم ببربغاندا لمظاهرة تفوح منها روائح معينة، و أرغم الكثيرون على المشاركة فيها كحالة "العربي الشاوش" وغيره.. السيارة تسير في الطريق والعائلة الصغيرة مجتمعة وكل منهمك بأمر ما، فنمط عيش هذا النوع من العائلات يختلف اختلافا شديدا عن نمط العيش في المناطق الأخرى ، فمغربي الرباط وفاس والدار البيضاء ..ليس هو مغربي جبال الأطلس والمناطق المهمشة في هذا البلد الذي يقال أنه "سعيد".
عاد "العربي" لبيته في اليوم الموالي وفي جيبه مبلغ من المال وعلبة سجائرــ حلمه كل يوم ــ . دخل بيته أو بالأحرى كوخه ونزع حذاءه الوحيد لتتسلل منه رائحة اجتاحت البيت ، تستفيق زوجته من النوم . فرائحة الحذاء جعلت زوجته "فطوم" تنفر من النوم وتلعن اليوم الذي نامت فيه في هذه الحياة البئيسة . "فطوم" إمراة من جبال الأطلس انتقلت مع زوجها بعد زواج باتفاق بين والديهما وليس برضى الزوجين ، تشتغل في المنازل كخادمة وفي "الموقف" مقابل أجر بسيط لتطعم اطفالها.
تقول فطوم 
ــ أش وقع اليوم 
ــ "قالو بلي الدولة متشانقة مع شي شنوي" 
ــ شينوي دار هد الحالة 
ــ وا فطوم راه الشيناوا خطار تلقاه هرب ليهم بشي حاجة من درب غلف
"كبور" يرتدي بذلة العمل ويحمل مكنسة ويتجه في الصباح الباكر لينظف مكان المظاهرة، فبعد عناء طويل تحصل على عمل بأجر لا يكفي حتى لسد مشكل التدخين ، هو شاب مغربي من عائلة بسيطة حاصل على شهادة عليا في الفلسفة وعلى مستوى عال من الوعي ، سيجارته في يده اليمنى ، يمر قرب إدارة فيجد حارسي الباب يتبدلان السلام . "كبور" !
ــ كيف الحال ولد إيزا 
ــ شبعنا علب سردين البارح يا ودي "كبور"
من خلال ما قاله الحارس تيقن "كبور" أن العمل اليوم شاق وقد يستغرق ساعات من الجهد والنكد لجمع وتنظيف ما خلفه "القطيع المطيع".
بقلم : مبارك الفهيمي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *