-->

خمس سنوات قرب الشهيد محمد عبد العزيز


وهَذِهِ الدارُ لا تُبْقِي عَلِى أحَدٍ  وَلاَ يَدُوْمُ عَلى حَالٍ لَهاَ شَانُ
من الفقد ما يجعلك تحزن بعمق، ومنه ما يدفعك للشعور بالخواء، ومنه ما يحيلك إلى حطام، ومن الفقد ما يضعك في موقف حرج تحتاج لمدة زمنية لكي تصدق ما أنت فيه، وفقدان المرحوم بإذن الله الشهيد محمد عبد العزيز جعلنا في دوامة تتلاطم فيها كل تلك المشاعر والأحاسيس. 
عرفت المرحوم كما عرفه الجميع من خلال المسيرة النضالية التي لم يسلم منها حد ووصلت شرارتها إلى كل الصحراويين عرفته من خلال المذياع وتردد الإسم في المحاضرات والتجمعات وعلى الالسن في كل مكان. ورأيت صوره الملهمة في صدور الصحف والمجلات وكان مع الأيام يكبر بداخلي مثل أي صحراوي كونه يمثلنا ويعتبر رمزا لنا ولمشروعنا.
رأيته بشكل مباشر لأول مرة في غشت 1991 أياما قليلة قبل وقف إطلاق النار، وكنت كمن يرى نبيا ينبعث منه نور وضياء، كان يرتدي بدلته العسكرية ويضع عليها جلبابا يزيد من وقاره، كان يتناقش أمورا عسكرية هامة مع رفيقه محمد لمين البوهالي في وادي الكعبيات بمنطقة زمور إبان الخروج الإستفزازي للقوات المغربية من جحورها. بعد وقف إطلاق النار تكررت رؤيتي له مع تكرار الدورات التفتيشية التي كان يقوم بها بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة.
صافحته بشكل مباشر أول مرة في خريف 1993 حين كنت أعمل محافظا مؤقتا لمدرسة الشهيد الولي العسكرية، لأتشرف بعد ذلك وفي نفس اليوم بالمشاركة في تقديم عروض له عن حال المدرسة وبرامجها. وفي ربيع 2004 قابلته بشكل مباشر للمرة الثانية أثناء إنعقاد قمة أفريقية في سرت بليبيا ليكتب الله لي أن دعاني للعمل معه في رئاسة الجمهورية اين عملت لمدة عام تقريبا في قسم الإعلام بالرئاسة ثم مديرا لديوانه رحمة الله عليه حتى سبتمبر 2009،.
لن أتحدث في هذا المقام عن مناقب الرجل التي يعرفها الجميع ولا عن تاريخه الذي كتبه بالدم والعرق ولا عن المكانة التي يتربع عليها في قلوبنا جميعا فكلها حاضرة بقوة ووضوح في أذهان الجميع، ولن أعدد مناقبه رحمه الله لأنها وضعته حيث هو في الضمير الجمعي الصحراوي وحتى في الذاكرة العالمية. ولكنني أفضل أن أشارككم بعض المواقف التي عايشتتها وانا بقرب المرحوم وأترك لكم تحليلها وإستنباط منها روعة أن يكون الإنسان عظيما، وللتذكير هي غيض من فيض:
Ø في مقابلة تلفزيونية مع التلفزيون الأيرلندي سأله الصحفي: ماهي ميولك الفكرية؟ لمن تقرأ من الكتاب؟ كيف تقضي يومك؟ وكان جوابه رحمة الله عليه: منذ مطلع 1973 لم يعد لدي ما يسمى بالحياة الخاصة، وأنصهرت بشكل مطلق في أسمى ما يمكن أن يقوم به الإنسان وهو الدفاع عن حق الشعب. 
Ø ذات ليلة في شتاء 2006 تأخر رحمه الله في مكتبه حتى حدود الواحدة ليلا علما أنه يعمل منذ الصباح، ودخلت عليه ورجوته أن يخفف عن نفسه ضغط العمل فقال لي بنبرة فيها الكثير من الإيمان والإلهام والصبر والموعظة والعبرة: " من يضع نفسه أو تضعه أقداره في هذا المكان فلا راحة له" وتكرر نفس الموقف ونفس الكلمات أثناء مهمة جمعتني وأياه إلى ناميبيا حين أرغمنا على إنتظار رحلتنا من برشلونة إلى جوهانسبورغ لأكثر من أربع ساعات في المطار، وفي وقت متأخر جدا من الليل، قضاها كلها معانقا هاتفه النقال غدوا ورواحا في مضمار المطار، إلا أنه هذه المرة قال لي مبتسما غفر الله له: " أمالي قلت لك ......... لا راحة له". 
Ø زارت باحثة كندية المخيمات ونُظمت لها زيارة إلى الأراضي المحررة أين ستلتقي المرحوم، وفي وقت الغداء جلس رحمه الله على الارض دون أن يفترش شيئا. نظرت إلى الضيفة وقالت: " لكي تكون عظيما لا تحتاج دائما لكرسي وثير وبلاط ورعية، أنظر أمامك، هذا الرجل مدرسة نادرة...".
Ø في إطار تسامحه اللامحدود مع أبناء الشعب، أحضر معه مرة شخصا قياديا كان في حالة (عدم رضى عن التنظيم ـ وفق التعبير السائد)، واستغرب الكثير من الحضور هذا الموقف الذي لا يقدم عليه إلا الأنبياء بسبب مواقف الغاضب. بعد ذلك سألته لماذا يتفانى ويبالغ في التسامح مع أشخاص ربما لا يستحقون؟ فأجابني شمله الله برحمته قائلا: " ديننا وكل الأديان تدعو بإلحاح على التسامح/ نحن نحتاج إلى كل صحراوي حتى لو كان غاضبا منا ففي كل إنسان مزايا وعيوب وعلينا إرضاءه والتغاضي عن شوائبه طمعا في مزاياه/ ثم ردد المثل الحساني في آخر حديثه غير القصير ( اللحمة إذا تعفنت لن يتحمل عفنها إلا أهلها ). 
Ø في وجبة عشاء رسمية بدعوة من سلطات أجنبية كان يبعدني عنه تغمده الله بالرحمة قرابة أربع كراسي، وأشار لي أن أقترب منه وهمس في أذني بلغته الحنونة المعهودة :" إنتبه لفلان وفلان وكن عونا ودليلا لهما فهما غريبين على هذه الأجواء". وكان يقصد شخصين من قادتنا نادرا ما سمحت لهما ظروفهما العملية بمثل تلك اللقاءات.
Ø أثناء جولة تفقدية للنواحي العسكرية، أصدر أوامره تغمده الله بالرحمة أن نذهب في رحلة تفقدية ذات طبيعة خاصة ندرس من خلالها قطاع من الجدار الدفاعي المعادي تضرر بشدة بفعل الأمطار، جلس على ربوة ومسح بالمنظار على مسافة ثم ناولني أياه وأتجه أدخله الله الجنة صوب قائد الناحية الذي كان برفقتنا وهو يقول: "أوكد لكم أنه إذا لم يتم التعامل بحزم مع مثل هذه الثغرات فإنها ستشكل عاجلا مصدرا لسيل لاينتهي من المتاعب وسيشكل إضافة سلبية لتراكمات صراعنا مع العدو......".
Ø كنا نشاهد مقابلة ضمن كأس أوروبا للأمم 2010 في قسم الإشارة بالرئاسة وفجأة دخل علينا أدخله الله مدخل الانبياء وأمرنا بالتخلي عن بروتوكول التحية وأن نستمر في المشاهدة، توجه إلى مكتب العمل بالقسم إذ كانت قد وردت أنباء عاجلة تتعلق بتحركات مغربية ثم خرج وأخذ يتابع معنا مجريات المقابلة وصادف أن قام اللاعب الدولي زيدان بنطحته الشهيرة للاعب الايطالي ماتيرازي، فصاح أسكنه الله الجنة متأثرا بالفعل دون أن نفهم أو على الأقل أن أفهم شخصيا موقفه من تلك الفعلة، لكنه بعد هنيهة وقف بالباب يهم بالمغادرة وألتفت لأحد الزملاء قائلا :" ليتها كانت ضربة موجهة لمغربي......".
لله ما اعطى وله ما اخذ، بقلب مؤمن تلقيت الخبر لكن ايماني لم يغنيني عن موجة حزن غمرتني حد الأسى، ولا أخفي أنني ترددت كثيرا قبل أن أكتب خوف أن أكون دون المقام لكن عظمة المقام تستوجب الحضور وتفرض عدم التقاعس.
لن أفي المرحوم حقه ولست وحدي في ذلك، والكلمات تعجز كما يقول الكتاب عن عكس المشاعر بصورة مقنعة، والدموع تنهمر مدرارة ولن تفيه ولن تشفي الغليل.
لن أطيل لأنني مهما فعلت لن أنجح في الإلمام بتفاصيل حياة رجل عظيم، فقد قضيت تلك السنوات الخمس وأنا أمتص كل إفرازات العظمة وواثق أن كلمات قليلة لن تحيط بكل ذلك، خمس سنوات من العمل بكل مكوناته ومتطلباته وما يحيط به من تنوع في المواقف وفي ردات الفعل وفي كل ذلك تجربة تتراكم لن يكون سهلا الإحاطة بها. 
الحياة بقرب الرجل غمره الله بظله مليئة بكل التفاصيل التي تخطر على البال والتي لا تخطر عليه، فكل كلمة أو حركة أو ومضة أو موقف يمثل درس أو عبرة أو موعظة. وأختم هذا المكتوب الخجول بالقول أن من ضاع منه العمر دون أن يقترب من المرحوم فقد اضاع شخصا نادرا وثمينا. 
عزائي لعائلته وللشعب الصحراوي، وإذا تأخر التعبير عن الحزن فمعنى ذلك أن الذهول بهول المصاب كان عميقا، وإن تأخر العزاء فذلك لا يعني أن الآخرين أكثر حزنا.
حمادي البشير

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *