-->

في ذكرى بنائه.. تاريخ الأزهر بين التطوير والتطويع


محمود صديق-القاهرة
لم يكن بمخيلة القائد الفاطمي جوهر الصقلي وهو يبدأ بناء الجامع الأزهر في الرابع من أبريل/نيسان عام 970 كنواة لنشر المذهب الإسماعيلي الشيعي أنه سيصبح مرجعية الإسلام السني في العالم، كما لم يخطر بباله أن يمر هذا الصرح الكبير بمراحل متعددة من النفوذ الديني والسياسي وصولا إلى محاولات التحجيم والتهميش.
تعددت الروايات المعللة لتسمية الأزهر بهذا الاسم، فإحداها ترى أن الأزهر معناه المُشرق ومذكر كلمة الزهراء لقب السيدة فاطمة ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوجة الإمام علي بن أبي طالب، بينما ترى رواية أخرى أنه اشتق من الأسماء التي أطلقها الفاطميون على قصورهم الزاهرة.
بدأ الأزهر مسجدا لكن سرعان ما أضحى مركزا تعليميا حيث بدأ تدريس المذهب الإسماعيلي للعامة، وفي عام 1005م وهب الخليفة الفاطمي آلافا من المخطوطات كنواة لمكتبة عظيمة.
وشرع الوزير الأول للدولة الفاطمية يعقوب بن كلس في جعل الأزهر مركزا كبيرا للتعليم مخصصا لذلك 45 عالما متفرغا، ثم أقام الحاكم بأمر الله دار الحكمة لجعلها مقر مجالس العلم والحكمة.
وقال المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه الشهير "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" إن "قيام دار الحكمة لم يكن ناسخا لدور الأزهر وإنما كان متمما لهذا الدور في تخريج العلماء والفقهاء والمحدثين".
مركز للعلوم الشرعية
في عهد الدولة الأيوبية السنية حظرت الصلاة في الأزهر لكنه ظل بمثابة الجامعة، حيث كان مركزا لفقه اللغة العربية وتدريس علم الكلام والبيان والمنطق، بالإضافة إلى كونه ملجأ لأنشطة مشاهير المتصوفة كابن الفارض وابن خلكان.
وبعد ما يزيد عن مئة عام أعادت الدولة المملوكية الصلاة بالجامع الأزهر وسمحت بكافة أنواع التعليم، إلا أنه ظل تاليا للمدارس الدينية التي وضعها صلاح الدين كمكان مفضل للتعليم بين النخب والأمراء.
وبعدما دمر المغول المراكز العلمية في بلاد الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي، برز دور الأزهر وساعد على ازدياد أهميته كذلك سقوط الأندلس في يد الإسبان، وتحول طلبة معاهدها إلى الأزهر.
في القرن الخامس عشر احتضن الأزهر كوكبة من العلماء والمفكرين مثل العسقلاني والقلقشندي والمقريزي والعلامة المغربي الأشهر تقى الدين الفاسي، وكان عبد الرحمن بن خلدون يدرس فيه نظريته الشهيرة في العمران ونشأة الدول. 
نفوذ سياسي انتهى بالتحجيم
مع دخول الدولة العثمانية إلى مصر عام 1517 ازدهر مركز الأزهر التعليمي أكثر فأكثر متخطيا مدارس صلاح الدين، ووصل مع نهاية القرن الثامن عشر إلى قدرة العلماء على التأثير في صنع القرار السياسي بصفة رسمية من خلال تعيين بعض المشايخ بالمجالس الاستشارية للولاة.
بل تطور دور الأزهر ليصبح نقطة محورية للحركات الاحتجاجية ضد الحكم العثماني لمصر من قبل العلماء والطلبة وعامة الناس، وكان لعلماء الأزهر قدرة أحيانا على تحدي الولاة والتسبب في إقالتهم.
وحين أتى نابليون بونابرت قائدا للحملة الفرنسية على مصر، كان مدركا لدور الأزهر في نفوس المصريين فأنشأ ديوانا يضم تسعة من شيوخ الأزهر لإدارة القاهرة، ورغم ذلك قاد الأزهر مشايخ وطلبة الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، بل إن الطالب السوري بالأزهر سليمان الحلبي قتل الجنرال كليبر الذي خلف نابليون في قيادة الحملة.
سعى محمد علي الذي حكم مصر أوائل القرن التاسع عشر إلى الحد من نفوذ شيوخ الأزهر لما يمثلونه من تحد لأي حاكم، خاصة أنهم هم من نصبّوه حاكما على مصر، فوزع المناصب بين الذين تلقوا تعليمهم خارج الأزهر، وأوفد البعثات إلى فرنسا ليخلق جيلا متعلما بعيدا عن نموذج الأزهر.
وفي ثورة 1919 كان للأزهر نصيب الأسد، فمن ساحته خرجت المظاهرات وقاد مشايخ الأزهر المظاهرات بشكل لافت مع قساوسة للتأكيد على وحدة المصريين ضد الاحتلال البريطاني، ومنعا لبث الفتنة الطائفية لتفريق المصريين.
وجاءت دولة يوليو 1952 لتجري تغييرات جذرية على طبيعة مؤسسة الأزهر، فأممت الأوقاف وفصلتها عن الأزهر كوزارة خاصة وألغيت المحاكم الشرعية، وأنشأت كليات كالهندسة والطب والعلوم وغيرها، وهو ما رآه البعض تطويرا، في حين رآه آخرون تدميرا وتحجيما للدور الذي قام به الأزهر طوال تاريخه. 
مشايخ السلطان
استطاعت دولة يوليو تحجيم دور مشايخ الأزهر، ونجحت في اجتذاب كثير من مشايخه ليكونوا أقرب لوصف "مشايخ السلطان" في تبرير سياسات الرؤساء المتعاقبين، ويتعرض كل من يحاول الوقوف في وجه ما تريده السلطة إلى الإبعاد والتشويه.
و"مشايخ السلطان" وصف رحب به مؤخرا الشيخ الأزهري المقرب من الأجهزة الأمنية خالد الجندي خلال لقاء تلفزيوني، معتبرا أن الأصل في العلماء أن يكونوا مشايخ السلطان.
ويتعرض شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب لحملات على فترات متقطعة من إعلاميين مقربين من السلطة، مطالبين بضرورة عزله نتيجة معارضاته المتعددة لبعض توجهات وخطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي، مثل معركة الطلاق الشفهي وتطوير الخطاب الديني الذي يرى فيه شيخ الأزهر محاولة للانسلاخ من السنة النبوية.
في حين يرى آخرون أن المعركة مع شيخ الأزهر هي معركة سياسية وليست فكرية، حيث أعلن شيخ الأزهر اعتراضه على مذبحة ميداني رابعة والنهضة أغسطس/آب عام 2013 التي سقط خلالها مئات القتلى والجرحى، وأعلن اعتزاله الحياة العامة عدة أسابيع، وهو ما رأته السلطة جنوحا من شيخ الأزهر نحو دور استقلالي، وظهر هذا الدور بعد ذلك في المعارك الفكرية والسياسية التي خاضها شيخ الأزهر ضد التوجهات الفكرية لنظام السيسي. 
استقلال مادي وإداري
يرى أستاذ علوم الحديث والأمين العام جبهة علماء الأزهر يحيى إسماعيل حلبوش أن استقلال الأزهر إداريا وماديا أصبح ضرورة تفرضها حقيقة التراجع المخيف لدور الأزهر أمام رغبات الحاكم، مضيفا "وتبرز هنا ضرورة التأكيد على مبدأ انتخاب شيخ الأزهر، فالأزهر هو مرجعية الدين الإسلامي في العالم كله لا ملك المصريين وحدهم".
وأشار حلبوش إلى مطالبات بعض مريدي استقلال الأزهر في نقل دار الإفتاء وأملاكها ومخصصاتها من وزارة العدل لتتبع الأزهر، متابعا "بل هناك مطالبات بإلغاء وزارة الأوقاف وإعادتها إلى الأزهر كما كانت قبل عصر عبد الناصر".
ولا شك أن ما نسمع عنه هذه الأيام -يكمل حلبوش كلامه- من معارك تطوير الأزهر والمقترحات التي تأتي أحيانا للأسف من بعض أبنائه قد تتحول لمعاول هدم للمؤسسة العريقة، مشيرا إلى تصريح مسؤول مستقيل من منصب أزهري بأن "مناهج الأزهر غير قادرة على تحصين طلابه من الأفكار المتطرفة".
وأكد حلبوش أن الجميع خاسرون من انهيار الأزهر ودوره شعوبا وحكاما وثوارا، "فالأزهر كانت تنطلق منه المظاهرات المنددة بالوحشية الصهيونية ضد شعوبنا العربية خاصة الفلسطينيون، وأن جمال عبد الناصر لم يجد مكانا يحشد منه لمقاومة العدوان الثلاثي على البلاد عام 1956 سوى منبر الأزهر"، بحسب وصفه.
المصدر : الجزيرة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *